بقلم // د. طلال عتريسي

(أكاديمي لبناني)

يتناول الدكتور علي المؤمن في كتاب “الاجتماع الديني الشيعي” موضوعاً من أهم المواضيع التي شغلت الكثير من الباحثين منذ عقود، خاصة بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران، وما أدت إليه من إهتمام عالمي بالإسلام، وبالتشيع بشكل خاص، نظراً لهوية هذه الثورة وطبيعة قيادتها. إلا أن ما يميّز المؤلف في هذا الكتاب، وما يجعل عمله أكثر صعوبة لجهة القراءة الموضوعية والعلمية، أنه ينتمي إلى هذا الاجتماع الشيعي اجتماعياً وفكرياً وعقائدياً، وهو بالتالي؛ أعرف بما يجري في هذا الاجتماع وتفاصيله واتجاهاته من كثير ممن كتبوا عن هذا الاجتماع، عن بعد، مسلمين وغير مسلمين، ما يجعل قراءة هذا الكتاب ومناقشته فرصة معرفية للتعرف من الداخل على طبيعة هذا الاجتماع ومكوناته، والتحديات التي يواجهها والمستقبل الذي يتطلع إليه. 

 يستعرض المؤلف في الفصل الثاني، بعد عرض منهجه البحثي في الفصل الأول، المراحل التاريخية لتشكل النظام الاجتماعي الشيعي، منذ الإمام علي إلى يومنا هذا. وقد تكون هذه المعلومات التاريخية معروفة وموجودة في الكتب والمؤلفات الشيعية بشكل خاص، إلا أن ما يستحق التوقف عنده هو اعتبار المؤلف أن العصر الذي يعيشه هذا النظام اليوم هو عصر الإمام الخميني. وبرأينا هو محق في هذا الاعتبار، نظراً للتحولات الكبرى التي أحدثتها هذه الثورة وهذه القيادة في واقع الشيعة في مختلف بلدانهم، بعد عقود طويلة من التهميش ومن الانكفاء الذي عاشه الشيعة أو فرض عليهم. ولا شك أن المؤلف يتمتع بالجرأة العلمية عندما يعتبر أن هذا العصر هو عصر الإمام الخميني، لأنه يعرف ما قد يثيره هذا الرأي من ردود أو من اعتراض في أوساط شيعية حوزوية وغير حوزوية، وهو يؤكد: ((إن هذا العصر هو العصر الذهبي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي)) (ص35)، لكنه لا يشرح للقارئ لماذا يعتبر أن هذا العصر هو العصر الذهبي.

 يعتبر المؤلف إن المجتمع الشيعي يتشكل من ستة عناصر هي : العقدي- الفقهي- السلوكي- التاريخي- الطقوسي- الاجتماعي (ص 22)، ولا ندري لماذ أهمل البعد الثقافي في هذا التشكل، ولماذا لم يلحظ الترابط بين السلوكي والطقوسي والاجتماعي على سبيل المثال. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يمكن أن نطرح السؤال الذي يستند إلى منهج المؤلف نفسه في ترابط المسارات المعرفية، وهو كيف تفاعلت العناصر الأربعة الأخيرة (السلوكي، والتاريخي، والطقوسي، والاجتماعي) في إنتاج الإجتماع الشيعي، وهل تبدلت هذه العناصر في هذا العصر الذهبي الذي يعيشه هذا الاجتماع اليوم؟. وعلى سبيل المثال؛ يمكن أن نذكر طقوس إحياء عاشوراء، كيف تبدلت من السريّة والهامشية إلى العلنية والتنظيم والفاعلية السياسية والثقافية.

 يطرح المؤلف فرضية أساسية يعتبر فيها أن ((الاجتماع الديني الشيعي هو اجتماع عالمي متماسك، وليس محلي أو إقليمي، وأن الأواصر المذهبية الاجتماعية المشتركة التي تشد وحداته المحلية الى بعضها، أو إلى المركز، هي أقوى بكثير من التباين اللغوي والقومي والوطني))(ص25). وكان من المفيد لو قام المؤلف بتحليل دينامية الارتباط بهذه الأواصر مع اندماج الشيعة في بلدانهم وأوطانهم، خاصة وأن المؤلف يذهب في نهاية البحث إلى تحليل قد يكون مغايراً لهذه الفرضية عندما يستنتج: ((إن الشيعي كلما تعرض الى الضغوطات والتهميش والارهاب؛ فإنه سيندك أكثر في نظامه الاجتماعي المذهبي، ويلجأ الى مؤسسته الدينية، وقيادته المرجعية في الشأن العام، وبأشكال ومضامين ربما تتعارض أحياناً مع حَرفية القوانين والقرارات السياسية للدولة))(ص250)، علماً بأن المؤلف، كما سبقت الإشارة، يفترض أن هذا الأمر هو أمر طبيعي، نظراً لعالمية الاجتماع الديني الشيعي، وهو ما يحتاج إلى المزيد من التوضيح والتحليل.

 عرض المؤلف في الفصل الرابع ما يعتبره جوهر وقلب النظام الاجتماعي الشيعي وهو ((المرجعية الدينية وقيادة النظام))(ص89)، وقد تحدث عن ثوابت هذه المرجعية وقواعدها التشريعية، وقام بتحليل جوانب مهمة في واقع هذه المرجعية، وصولاً إلى مسألة نعتبرها من وجهة نظرنا في غاية الأهمية في عصرنا الحالي، وهو ما يسميه المؤلف ((خلاف المنهجيات الاصلاحية والمحافظة والثورية في الحوزة العلمية))، وتحتاج هذه القضية برأينا إلى التوسع والشرح وعقد المقارنات حول القضايا التي يبرز فيها الخلاف بين محافظ وإصلاحي وثوري؛ هل هي في القضايا الفقهية، أم في القضايا السياسية، أم في قضايا أخرى تحتاج إلى الشرح والتوضيح، خاصة وأن مثل هذا الخلاف قد يكون له علاقة بما يعتبره المؤلف العصر الذهبي الذي يعيشه الاجتماع الشيعي اليوم.

يرى المؤلف أن العصر الشيعي السادس، الذي أسسه الإمام الخميني ((تعرض للغزو الطائفي بأشد ما يمكن من هجوم لإسقاطه))(ص54). وهذه وجهة نظر تحتاج الى النقاش، فما هو مؤكد وصحيح أن هذه الجمهورية الإسلامية تعرضت لأقسى أنواع الهجوم والحصار والعقوبات والتهديدات لإسقاطها، لكن السؤال هو هل تم ذلك كله بخلفية طائفية أو مذهبية، أم بخلفية سياسية واستراتيجية لها علاقة بدور الجمهورية الإسلامية في المنطقة وبمواقفها من قضايا أساسية تتعارض مع سياسات دول الهيمنة والإستكبار في العالم، مثل الموقف من الكيان الصهيوني، والموقف من المقاومة ومن دعم حركات التحرر، ومن الإستقلال على المستويات كافة. وأبرز مثال على ذلك برأينا هي الحرب التي شنها النظام العراقي السابق ووقف العالم كله إلى جانبه، ولم تكن في جوهرها حرباً مذهبية.

 وحول اسئلة الهوية الشيعية يشير المؤلف إلى ((أن ضربات الخصوم استهدفت منذ 1979 (انتصار الثورة الاسلامية) النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتدميره من الداخل، وتفكيك بنيته العالمية، أكثر من استهداف التشيع كعقيدة وفقه (ص 165). ربما كان هذا الرأي يحتاج إلى أمثلة وبراهين عن هذا الإستهداف للنظام الاجتماعي الشيعي، خاصة بعد 1979 وفي أي بلدان حصل ذلك، كما فعل المؤلف حين أعطى الأمثلة عن النجاح النسبي للشيعة في التوفيق بين الانتماء للمذهب والإنتماء للوطن، خاصة وأن هناك اختلاف واضح وتفاوت في القدرات بين المجتمعات الشيعية في بلدانهم المختلفة، فما يجري في لبنان على مستوى المذهب ليس كما يجري في البحرين، على سبيل المثال.

 يخوض المؤلف في ((فرادة المجتمع الديني النجفي))، وهو بحث مهم ومفيد، وربما غير معلوم للكثيرين، خاصة وأن النجف هي حاضرة مهمة وأساسية من حواضر التشكل الشيعي الفقهي والثقافي والاجتماعي التاريخي والراهن، لكن الملاحظة التي نسوقها في هذا البحث المهم، أن التحديات التي يعرضها المؤلف والتي يواجهها هذا المجتمع هي تحديات “قديمة” تعود إلى السبعينيات (البعث والشيوعية)، وكان من المتوقع أن تطرح الأسئلة التي تتناول التحديات الراهنة التي تواجه هذا المجتمع (الثقافية والاجتماعية والسياسية) وتحولاتها، خاصة بعد سقوط النظام السابق. 

يعرض المؤلف لـ ((ترشيد الطقوس الدينية))، خاصة في مناسبة إحياء عاشوراء (ص 225)، ويدعو إلى تجنب أي سلوك أو اي خطاب يمكن أن يشوه هذا الإحياء ((ونقاء المذهب))، ويفترض المؤلف أن مثل هذه الممارسات ستؤدي إلى ((دعم المذهب الوهابي التكفيري دعماً نوعياً، وتضطر السنة إلى الارتماء في احضان الإيديولوجية الوهابية))(ص227) . أما الخطر الثاني فهو تشويه عقيدة أهل البيت. وإذا كان الخطر الثاني صحيحاً، فإن الخطر الأول يحتاج إلى المزيد من النقاش والشرح والتحليل، حتى لا يعتقد البعض أن تكفيرية العقيدة الوهابية هي رد فعل على المبالغات الشيعية، خاصة وان ما جرى في السنوات الماضية، يؤكد ارتباط الوهابية بمشاريع غربية في أفغانستان وسوريا والعراق وفي بلدان أخرى.

في خاتمة الكتاب، يعتبر المؤلف ((إن ما جاء في هذه الدراسة يجعل منها قاعد لاسستشراف مستقبل النظام الاجتماعي الديني الشيعي برمته، ومدخلاً للاجابة على سؤال: كيف سيكون المشهد في النجف وقم وعموم شيعة العالم بعد عشر سنوات، أي في العام 2030م، بكل تفاصيله الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية؟)) (ص247). ويتابع بالقول: ((لعل بالإمكان، من خلال الإجابة على هذا السؤال، رسم خارطة طريقة واقعية ودقيقة لإعادة بناء منطقة الشرق الأوسط، عبر إعادة تكوين الواقع السياسي والقانوني والديني والمذهبي لبلدان الحضور الاجتماعي الشيعي، بما ينسجم وقواعد القانون الدستوري وأحكام القانون الدولي، والنظم السياسية العادلة، بمضامينها الإسلامية وأدواتها الديمقراطية اللصيقة بالواقع الاجتماعي والسياسي والعقدي، وهو ما ينبغي أن يكون هدف جميع شعوب العربية والإسلامية)) (ص248). وفي الحقيقة لم تتوضح طبيعة العلاقة المتوقعة بين ((مستقبل المشهد في النجف وقم وعموم شيعة العالم” وبين قواعد القانون الدستوري وأحكام القانون الدولي، بمضامينها الإسلامية وأدواتها الديمقراطية)). 

لا بد من التأكيد في النهاية، أن هذا الجهد العلمي المتميّز في الكتاب يقدم فائدة مطلوبة ومناسبة في هذه الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي تمر بها بلادنا العربية والاسلامية، ويمر بها الشيعة بشكل خاص، ولا شك أن التعرف على هذا الاجتماع، سيساهم في إزالة الغموض والابهام الذي يتعمده البعض حول الشيعة، ما يؤسس لعلاقات انسانية واجتماعية ومواطنية سليمة تحتاجها مجتمعاتنا.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here