بقلم// د. جلال فيروز
(باحث من البحرين)

يسعدني أن تكون لي قراءة في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور الفاضل على المؤمن، والذي أتشرّف أن أكون متخرِّجاً من نفس الجامعة التي تخرّج منها، ورغم أنّي أكبره سنّاً، ولكنّه متقدم كثيراً في بحوثه. وما أدونه هنا هو عرض لكتابه المذكور، إضافة الى طرح رؤيتي حيال ما تفضّل بكتابته المفكر الدكتور على المؤمن.

بدأ الدكتور المؤمن في طرح أفكاره من مقدمته، وأراد فيها أن يقول أن هذه الافكار مكتوبة من باحث وأكاديمي موضوعي، وإن كان ينتمي للتشيع، وليست مكتوبة من قبل شخص مقدس، ولا شخص يحمل خصومة مع الدين، وهو حال أكثر الذين كتبوا عن التشيع؛ فهم أما يكونوا على منهج التقديس، واطلاقه وتعميمه، أو على منهج الخصومة. ولكن أغلب الكتب التي تصف الشيعة واجتماعهم الديني هي معادية للشيعة، وقد كتبها خصوم الشيعة. أما الكتب الموضوعية التي تناولت هذا الموضوع؛ فمنها ـــ مثالاً ـــ كتاب «هوية التشيع» للدكتور الوائلي، و«الشيعة والحاكمون» وغيره من مؤلفات الشيخ محمد جواد مغنية، و«الشيعة والآثار السياسية» للدكتور حمزة الحسن. ولكن؛ هناك ما يميز كتاب الدكتور علي المؤمن؛ فقد وقفت على هذا الكتاب منذ أن كان ينشره مؤلفه كدراسات ومقالات متسلسلة خلال الأعوام الماضية، ووجدت أنه متبحّر فعلاً في هذا المجال، وهو ما تكشفه أفكاره الجديرة بالدراسة، والتي أحاط فيها بكل الزوايا المطلوبة للموضوع.

لقد استخدم الدكتور المؤمن منهجاً علمياً معتبراً معتمداً، هو المنهج الوصف التحليلي، ويأخذ في مدخليته الجوانب التطبيقية العملية، فضلاً عن مقاربته للجوانب النظرية، ولكنه يعتمد أكثر السياق العملي في عرض المشهد الشيعي العام، وهذا المنهج الجديد لعلم الاجتماع الديني الشيعي يطرح لأول مرّة من قبله، فهناك علم الاجتماع وهناك علم الاجتماع الديني، ولم يسبق أن وقفنا على فرع مبتكر اسمه الاجتماع الديني السني، ولكن الدكتور المؤمن ابتكر علم الاجتماع الديني الشيعي، ونظّر له بصورة تفصيلية، من ناحية الهيكلية والمكوّنات والاجزاء والنسق وما إلى ذلك، وهو ابتكار متميز بحد ذاته، وهو ما أتفق معه بشأنه، بما يعني أن الاجتماع الشيعي متفرد، ويتداخل فيه الدين والمجتمع والسياسة والفكر والثقافة والمعرفة، والجوانب المختلفة. وقد ألمّ الباحث بكل هذه الجوانب في الفصول التسعة للكتاب.

وربما هناك من يُشكل على الدكتور علي المؤمن بأنّه هو ينتمي أيضاً إلى من وصفهم بمنهج التقديس، رغم أنه ليس مقدّساً، إنّما هو مفكر، أو هو باحث كما يسمّي نفسه تواضعاً. نعم هو ينتمي إلى هذه البيئة التي تجعله ربما يميل إلى تحبيذ هذه البيئة وتجميلها، بمعنى أنه ينأى بنفسه عن المآخذ أو السلبيات الموجودة في الجوانب المختلفة للاجتماع الشيعي الذي ينتمي أليه. وبطبيعة الحال فإن القدرة على التسامي على الانحياز تظل لصالح الدكتور المؤمن، لأنه رجل عاش المعاناة والانتماء من جهة، كما عاش التخصص والحياة البحثية من جهة أخرى، ومارس كل جوانب العمل الفكري والثقافي والسياسي، من خلال كثير من المؤسسات؛ قمنذ العام 1979 حين كان عمره (15) عاماً؛ انتمي إلى الدعوة الإسلامية، وبعد ذلك درس في الحوزة العلمية، ثم اشتغل في مؤسسات كثيرة، من جملتها أنه كان باحثاً في “المركز الإسلامي للأبحاث السياسة”، بعمر (20)، وأسس وأدار المركز الاسلامي للدراسات المستقبلية، وكان رئيساً لمركز دراسات المشرق العربي في لبنان، فضلاً عن دراسته الأكاديمية وتخصصه الدقيق في القانون الدستوري. هذا الممارسة البحثية المؤسسية أعطته أبعاداً عميقة لمعرفة المذهب الشيعي واجتماعه السياسي والديني والثقافي والمعرفي، وهو ما يتجلى في كتبه وبحوثه الأخرى أيضاً، وكل ذلك يحسب لحضرة الدكتور المؤمن حقيقة.

وقيما يتعلق بالكتاب؛ لم يتطرّق الدكتور المؤمن الى سبب تقسيم الكتاب إلى هذه الفصول التسعة، ولماذا يعني بهذه السياق؟، إذ ربّما لاحظت في الفصول بعض التكرار في الموضوعات، وخاصة في قضايا المرجعية الدينية الشيعية، وفي موضوع ظواهر القوة في المذهب الشيعي، رغم أنه لا يتكلم عن المذهب، وإنّما عن الطائفة الشيعية، وهو يفرّق بينهما، وهذا صحيح، فأنا أتفق معه على وجود فرق بين المذهب المتمثل في البعد العقدي والبعد الفكري والبعد الفقهي، وهو التشيع، وبين الطائفة الذين هم الشيعة أو المجتمع الشيعي والواقع الشيعي. وأتصوّر بأن الباحث وُفِّق للتبحر في كثير من الجوانب، وخاصة عناصر الاجتماع الديني الشيعي الستة وتفاصيلها، وشكل المذهب ومجتمعه، وربما كان بإمكانه إضافة بعض الجوانب الأخرى إلى العناصر الستة، وهو ما يتطلب بعض التفاصيل في هذا الجانب.

وبالنسبة لظواهر الاجتماع الديني الشيعي؛ فقد حدد المؤلف ست ظواهر، وكان موفقاً في هذا التحديد، وكذلك في شرحها، وخاصة ظاهرة المال الشرعي، كقاعدة للتمويل الذاتي الاجتماعي. ثم يعيد الحديث عنها في فصل آحر، ولكن من زاوية أخرى، أي من زاوية علاقتها بالمرجعية. ومن الأمور المهمة الحساسة التي يكشف عنها في إطار موضوع المرجعية؛ مسألة الحواشي وجماعات الضعط، ثم الوكلاء والمراقد والمساجد والمؤسسات الداعمة والحكومات والأحزاب وعموم الشيعة، وكذا التداخل بين العناصر والظواهر، رغم توضيح سياقاتها العامة في مخطط هيكلية النظام الاجتماعي الدنيي الشيعي، وقد عجبني أنه يرسم صورة هذه الهيكلية، بهذه الكيفية، ويبدأها بالإمام المعصوم، ثم النواب الفقهاء، وصولاً إلى المؤسسات والقواعد الشعبية، وهو أمر جيد وملفت.

في الفصل الثاني؛ يتحدث الباحث عن عصور ستّة للشيعة، ابتداءً بعصر الإمام امير المؤمنين علي، ثم يحدد موضوع سقوط الدول الأموية، ليكون مفصلاً لبدء العصر الثاني، أي عصر الإمام حعفر الصادق، وأدخل معه إمامة باقي الأئمة، من الكاظم الى غيبة الإمام المهدي. ولكن؛ أرى ان العصر الثاني بدأ في عصر الإمام محمد الباقر، وليس الإمام الصادق، أي قبل سقوط الدولة الأموية؛ ففي تلك الفترة حدث نوع من الانفراج السياسي، لأن الدولة الاموية كانت مريضة وضعيفة، حيث ازدهر وضع الشيعة، وأصبحوا مدارس؛ فقد استطاع الإمام الباقر، قبل الإمام الصادق، أن ينشر المذهب الشيعي. نعم؛ كان الإمام الصادق مبسوط اليد اكثر من الإمام الباقر، ولكن البداية كانت من الإمام الباقر. لذلك؛ كان بودّي لو أن الدكتور المؤمن قد حدد العصر الثاني في فترة الإمام الباقر، ثم يختمه بعصر الغيبة الصغري.

ثم يحدد العصر الثالث بعصر نواب الإمام أو السفراء، وحتى ظهور الشيخ أبي جعفر الطوسي؛ ليكون بداية عصر جديد. وهذه المفاصل الواضحة في تاريخ المجتمع الشيعي قد تكون صحيحة، ولكن؛ أعتقد أن أبا جعفر الطوسي أخذ عن سابقيه، أي أنه لم يبدأ من فراع. نعم؛ حاول الدكتور أن يميز عصر الطوسي بتأسيس حوزة النجف، بوصفها علامة فارقة. وبعد ذلك يذهب المؤلف إلى التأسيس السياسي للمذهب في ايران على يد الشاه اسماعيل الصفوي. وهنا قد يختلف معه بعض الباحثين، بأن التوجه الشيعي لتأسيس الدول وقيادتها كان موجوداً قبل الصفويين، مثل دول العلويين والأدارسة والحمدانيين والفاطميين وغيرهم. وربما نتفهم أسباب ذلك، لأن الدكتور المؤمن يحدد منهجه الاجتماعي الديني بالشيعة الاثني عشرية وليس الإسماعيلية أو الزيدية، التي كانت مذاهب قادة الدول الشيعية الأخرى، عدا الدولة الحمدانية الاثني عشرية.

وفي الفصول التالية، ابتداءً من الفصل الرابع، يركز الدكتور علي المؤمن على الظواهر ذات العلاقة بالحوزوة والمرجعية، أو مايسميه المؤسسة الدينية الشيعية المركزية وقيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويتعمق في تفاصليهما، بالنظر لما يقول أنه العمود الفقري للنظام، وهو جهد مضني وجيد، ولكن يبدو أن هناك تكرار واستغراق في الموضوعات في الفصل الخامس الخاص بالحوزة العلمية والفصل السادس الخاص بمنظومة المرجعية، لكنه تكرار واستغراق غير مخلين، بل إيجابيين. وأرى أن المؤلف كان موفقاً جداً في تحديد عناصر القوة الإثني عشر للاجتماع الديني الشيعي، والتفصيل فيها، والتحذير من ضعفها.

ويتناول في الفصل الثامن موضوعاً إشكالياً مهماً وحساساً، هو موضوع الهوية الشيعية، وهو موضوع ربما يشكل هاجس الدكتور علي المؤمن في كثير من دراساته. وقد أحاط في الكتاب بكل إشكالياتها وتراكيبها، بين المذهب والقومية والوطن وبين الخطاب القومي والمناطقي، فضلاً عن علاقة الهوية الشيعية بالاسلام، بوصفها جزء من الهوية الإسلامية العامة. وقد اطعت على دراسات سابقة للمؤلف بهذا الخصوص، ولكنه في هذا الكتاب؛ قارب الإشكاليات ووضع لها حلولاً واقعية، بشكل أكثر علمية وعمقاً.

ويخصص المؤلف الفصل التاسع لمسألة المرجعية الشيعية بعد رحيل السيستاني والخامنئي، ويستشرف مستقبلها، ويسرد سيرة مجموعة كبيرة من المرشحين لخلافتهما، ويوزعهم بين مراجع الصفين الأول والثاني، وكذلك الفقهاء غير المراجع، لكنه يضع ـــ مثلاً ـــ مرجعاً كآية الله الشيخ الجوادي الآملي ضمن مراجع الصف الثاني، المحتملين للخلافة، رغم انه الآن ضمن مراجع الصف الأول، كما يضع ـــ مثلاً ـــ الفقيه الشيخ محمد باقر الايرواني ضمن الفقهاء المحتملين لخلافة المرجع السيد السيستاني، رغم أنه الآن ممن يشار إليهم بالبنان. وهنا قد نختلف مع الدكتور المؤمن في التقويم من مرشح محتمل لآخر، ومن مؤسسة وجهة ترشيحية الى أخرى، ولكن؛ محاولاته في المقاربة هنا مورد احترام واعتزاز. ونرى على مستوى الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ قال بأن هناك جامعة المدرسين في قم، وهي مؤسسة أساسية فس ترتيب موضوع المرجعية، ولكن قد لا يكون الأمر كذلك، لأن تسنم موقع المرجعية تتعلق بالتفاف الناس عامة حول فقيه معين، أكثر من أن كونها مهمة مؤسسة معينة. نعم؛ جامعة المدرسين تطرح أسماء عدد من الفقهاء، كما حدث بعد رحيل السيد الإمام الخميني، حيث طرحوا أسماء ستة أو سبعة مراجع، ثم استمروا بالتحديث بعد وفاة بعض المراجع أو برزو مراجع آخرين.

والحقيقة؛ أنا أنظر إلى بعض الأمور التي يذكرها الدكتور المؤمن من زاوية مختلفة، ولكن؛ هذا لايقلل من حقيقة جهده الجهيد الكبير، وهو جهد علمي يستحق عليه الدكتور علي المؤمن التقدير والإشادة؛ فقد قارب فعلاً موضوعات وإشكاليات أساسية في إطار الاجتماع الديني الشيعي والنظام الذي يفرزه، وهو عمل تأسيسي رائد، نأمل أن يأتي الباحثون الآخرون لاستكماله والاستمرار في دراسته.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here