بقلم / رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي

أثناء جولة خليجية قمت بها الشهر الماضي، أجريت عدة لقاءات مع شخصيات إعلامية ورسمية مختلفة تناولنا فيها القضايا الدولية والإقليمية وكذلك السياسة الخارجية الروسية من كافة جوانبها.
انتابني شعور خلال المناقشات، وما بين سطور المقالات التي قرأتها هناك، وكذلك من خلال الأسئلة الكثيرة التي وجهت إليّ أن هناك تصورا عن روسيا يستند إلى السيطرة التامة والشاملة على جميع وسائل الإعلام من قبل الغرب. فكل الأخبار تنقل من مصادر غربية، وتواجه القنوات الروسية الرسمية RT و”سبوتنيك” وأي وسيلة روسية ناطقة بالعربية أو بأي لغة أخرى لحملة شرسة لحجبها والتعتيم عليها، ومصادرة أي وجهة نظر أخرى خلاف وجهة النظر الغربية التي تتناول الصراع الأوكراني فقط في سياقه الإقليمي، بوصفها “حرب بوتين”، وبوصفها “غزوا روسيا لأراضي دولة مجاورة”، وبوصف روسيا “الشر الأكبر”، وغيرها من المصطلحات التي اعتدنا عليها نحن العرب من قبل حينما تغضب الولايات المتحدة على دولة من الدول، فتشيطنها وتجعل منها “الشيطان” الذي تحاربه الولايات المتحدة “رسول الديمقراطية والحرية في العالم” باسم “الرب”.
أقول إنني التقيت شخصيات إعلامية مبدعة وبارزة تبلورت شخصيتهم فأصبحوا مؤثرين سياسياً، يشعرون بأداء واجب مؤثر يخدم القضايا العربية والدولية، كما التقيت شخصيات سياسية تشغل مناصب حكومية حساسة، أراحني وطمأنني ما أحسست به وكأن ما أقوله قد بدأ، ولو حثيثاً، يغيّر الصورة، التي كانت تسود عن روسيا. سمعت منهم أنه وعلى الرغم من الوسط الذي نشأوا فيه، وكيف أنهوا تحصيلهم العلمي ومارسوا حياتهم العملية في دول الغرب، إلا أنهم كانوا غير مقتنعين بالتفسيرات والكليشيهات التي يتلقونها من وسائل الإعلام الغربية والعربية، دون أن يكون هناك بديل.
أخبرني كثيرون منهم كيف أنهم قد لا يؤيدون العدوان، ولا يقفون إلى جانب العملية العسكرية الروسية الخاصة، إلا أنهم، وفي نفس الوقت، يدركون أن الحملة الغربية المعادية لروسيا غير نزيهة، ويقف وراءها الدول المؤيدة لإسرائيل، ونحن في المنطقة العربية ندرك تمام الإدراك كيف يجيد الغرب لي الحقائق، وتشويه القضايا العادلة، كما يحدث في القضية الفلسطينية. ما لفت انتباه أصدقائي في الخليج هو أن الدول التي تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني والحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية، والدول التي تغمض أعينها عن جرائم الاحتلال الصهيوني، والتوسع الاستيطاني، والقتل والعنف من جانب المتطرفين الإسرائيليين، هي ذات الدول التي تتبنى “مظلومية” أوكرانيا، وترسم من أوكرانيا صورة “الحمل الوديع”، الذي انقض عليه “الدب الروسي الغاشم”.
قلت فيما قلت، خلال محادثاتنا الطويلة، أن القضية الأوكرانية يتم تصديرها من وجهة النظر الإقليمية، دون النظر إلى السياق الدولي في ظل أفول شمس الهيمنة الأمريكية، وصراع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل البقاء على قمة النظام العالمي، وفشل نظريتها “القرن الأمريكي”، والمشكلات الحقيقية والمتفاقمة والكارثية التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي.
فالولايات المتحدة الأمريكية تعدّ العدة لمواجهة الصين، في الوقت الذي يقلقها بشدة أي تقارب بين روسيا والصين، ولم يكن ذلك ممكنا دون التخلص من روسيا. والتخلص من روسيا، وفقا لما كتبه رجال مخابرات، ومفكرين أمريكيين، سيأتي من دول أوروبا الشرقية، وهو ما قيل وكتب قبل 30 عاماً، لهذا كانت الثورات الملونة والانقلابات، وآخرها عام 2014 في أوكرانيا، وهو الانقلاب الذي دفع بكرة اللهب نحو منحدر قاس، لتتسبب في الصراع الدائر حالياً.
فأي عاقل كان يظن أن انقلاب أوكرانيا كان سيعني ببساطة أن يغلق “الناتو” البحر الأسود على روسيا، ويحرمها من الوصول إلى المياه الدافئة، وأن تسكت روسيا عن هذا، كما سكتت عن تمدد “الناتو” منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى 2014. وأي عاقل كان يظن أن تكون قواعد الناتو على بعد 600 كيلومتر من الكرملين، وأن تتعامل روسيا القوة النووية العظمى مع تلك الحقيقة بحسن نية، وألا تجد في ذلك تهديداً لأمنها القومي. وأي عاقل كان يظن أن تمارس أوكرانيا كل هذا الإرهاب والقمع وتحاول محو اللغة والثقافة الروسية من المجتمع الأوكراني بتشريعات لا توجد في أي من دول “العالم الحر”، في الوقت الذي يمولها هذا “العالم الحر”، ويؤجج من مشاعر الكراهية والفتن بين أبناء الثقافة الواحدة.
لقد لمحت منذ يومين خبراً بكتابة اسم أحد الشوارع في ألمانيا باللغة العربية، احتراماً وتقديراً للتنوع الثقافي داخل المجتمع الألماني، وفي ظل موجة ضخمة من اللاجئين من الدول العربية، وكذلك لوجود 1% من الشعب الألماني يستخدمون اللغة العربية في تعاملاتهم داخل أسرهم. أما أوكرانيا، التي يرصد مركز “بيو” المرموق وجود 44% من مواطنيها يتحدثون اللغة الروسية، فلم يكن لدى ألمانيا غضاضة من إلغائها، بالمعنى الحرفي للكلمة، للغة الروسية، والثقافة الروسية، ومنعها استخدام تلك اللغة في المدارس والمحال العامة، بل وفرض الغرامات والعقوبات على من يتحدثها. فعن أي منطق نتحدث هنا؟
لقد قامت روسيا بعمليتها العسكرية الروسية الخاصة العام الماضي ليس فقط دفاعا عن أهالي دونباس، والذين تقدر أعدادهم بحوالي 8 مليون نسمة، ولا دفاعاً عن الناطقين باللغة الروسية داخل أوكرانيا فحسب، وإنما كذلك دفاعاً عن الأمن القومي الروسي بالدرجة الأولى، بعد أن بلغ السيل الزبى، ولم يعد هناك خطوطاً زرقاء ولا حمراء إلا وتخطاها الغرب وداسها بقواته ومناوراته وقواعده العسكرية.
وبالفعل، نجحت روسيا في الأسبوع الأول من العملية العسكرية في تدمير كل القواعد التي بناها “الناتو” وكان يأمل في أن ينقل إليها معداته. أما استمرار الحرب، فيؤكد على أن روسيا لا تقف أمام أوكرانيا وحدها، وإنما تقف أمام الغرب الجماعي، تقف أمام “الناتو”. وما نراه اليوم من تقارب صيني روسي، وما نراه من عقوبات غير مسبوقة في التاريخ، وما نراه من حملة إعلامية شعواء، وحرب هجينة ضد كل ما هو روسيا، وما نراه من هستيريا بشأن الدبابات والطائرات المقاتلة وغيرها من الأسلحة الفتاكة، ليس سوى دليل لا شك فيه على الطبيعة الدولية لهذه الحرب، وليس الإقليمية، ودليل على تورط الدول الغربية في الحرب ضد روسيا، ليس فقط على مستوى إمداد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، وإنما أيضاً بتدريب الجنود والضباط من القوات المسلحة الأوكرانية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا.
إن السياق الدولي والتاريخي الذي تمليه الأحداث الجارية والمتلاحقة اليوم لا علاقة له بما يتناثر هنا وهناك من نشرات أجهزة الاستخبارات الغربية، وإنما يستند بشكل أساسي إلى صراع مرير وطويل، ويستند إلى مفاهيم راسخة ومتأصلة لدى الغرب، حاولت روسيا بكل ما تملك أن تغيّرها، وأن تقترب من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود الثلاث الأخيرة، وأن تمد جسور التعاون والثقة، ولكن دون جدوى. روسيا ظلت في مخيلة الغرب “الاتحاد السوفيتي”، و”محور الشر”، كما عجز السياسيون الأمريكيون عن التخلص من عقلية “الحرب الباردة”، ومضوا في طريقهم دون أن يلتفتوا إلى كم الفرص والإمكانيات التي كان من الممكن أن يستفيد منها العالم بأسره لو كانت المشروعات العملاقة والضخمة بين روسيا وأوروبا نجحت، وآخرها “السيل الشمالي” الذي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتفجيره في إعلان حرب صريح على روسيا وألمانيا في آن واحد.
لا تريد الولايات المتحدة أي تقارب بين روسيا وأوروبا، وأوروبا انصاعت لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتضرب قدمها بالرصاص يوماً وراء يوم، فيما تقدم اقتصادها ورخاءها ورفاهة مواطنيها قرباناً على مذبح أوكرانيا، التي خسرت وتخسر مئات الآلاف من أبنائها، وبنيتها التحتية، ووجودها كدولة، من أجل عيون الأمريكيين.
أما زلزال المملكة العربية السعودية وإيران السياسي، والذي لا يستطيع البعض النفاذ إلى معناه وجوهره السياسي، ومدى تأثيره على حاضر ومستقبل المنطقة، فلا عزاء لمن يظن أن الأمور ساكنة وهادئة، وأن الخليج ساكن في أحضان الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومطمئن بالقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة. لا سيما وأن الأمريكيين أنفسهم يتعاملون مع ذلك بكل جدية، ويفهمون أن ما يحدث في واقع الأمر يتعدى حدود “الغزل العفيف” بين السعودية والصين، إلى حدود الصداقة الاستراتيجية، ولا عجب، لأن شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد الصيني يمر عبر مضيق هرمز، ولأن آفاق تطوير المملكة العربية السعودية تمر عبر روسيا والصين، خاصة وأن سياسة الإملاءات والتعليمات قد ولى زمنها في ظل حكم الشاب الطموح والمتحمس الأمير محمد بن سلمان.
يمر الزمن، وتظن أجيالنا الكهلة أن العالم سيظل على ما هو عليه إلى أبد الآبدين، إلا أن العالم، شأنه شأن فصول السنة، يتغير ويتبدل، وتأفل إمبراطوريات، لتظهر محلها هياكل أخرى، وهو ما يحدث اليوم. يتبدل العالم ليصبح متعدد الأقطاب، بعد عقود من سيطرة الحضارة الغربية، التي هي في واقع الأمر ليست حكراً على أحد، ولا ملكاً لأحد، وهو ما أثبتته لنا النمور الآسيوية، وما تثبته لنا الصين كل يوم. والحضارة الغربية ذاتها هي في واقع الأمر عربية بدرجة ما، يصب في وعائها الجميع من كل الجنسيات والأعراق، تماماً كما كانت اللغة العربية يوماً جسراً عبرت عليه الثقافات والمعارف الفرعونية واليونانية والرومانية. تلك سنة الحياة. ومن يعتقد بأبدية الولايات المتحدة الأمريكية وسيطرتها على منطقتنا، فله في ذلك كل حق. أما نحن، في روسيا، فصدق أو لا تصدق، نرى الحقيقة كما شرحت لكم.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here