كنوز ميديا // ثقافة وفن
البرنامج الصيني المتطور Deepseek-R1 هو أكثر البرامج الإلكترونية التي أحدثت جدلاً واسع النطاق بين الشركات العالميَّة، لا سيما الأمريكيَّة منها. وهو البرنامج المجاني الذي أطاح بشركات موازية له بالهدف وتفوق عليها بشكل مثير، كشركات ميتا ومايكروسفت وغوغل، فقد اتسعت فقراته للكثير من المواصفات الإلكترونية العلميَّة التي جعلته متفوقاً على بقية الشركات في هذا الميدان؛ في تطوره السريع بما يسمى أنموذج الذكاء الاصطناعي كعقل جامع للمعلوماتية ومُجيب لأسئلة شائكة معرفياً. ويرى أهل التخصص في البرمجيات؛ ممن يستهويهم هذا التسابق العالمي المثير. بأنّه أقوى بـ 50 مرة من البرنامج الأمريكي Chat GPT كما يرى أهل التخصص البرامجي.
نحن في عالم متسارع جداً؛ يغدو الزمن فيه حكاية مضت ولا عودة لها. وهذا التسارع الإلكتروني يحاول جاداً أن يقطع مسافاتٍ زمنيَّة غير معتادة في سرود إلكترونية فائقة الخيال. تسابُق غير مألوف بين الشركات الإلكترونية العالميَّة. زمن يجري بسرعة غير معهودة. وذكاء تقني خارق ينقل العالم الى ضفة أخرى في مواصفات الحضارة الإلكترونية الجديدة، بوصفها الثورة الثالثة في الحياة البشريَّة بعد ثورتي الزراعة والصناعة.
وضمن التسارع التقني والمعلوماتي في بيانية البرمجيات الكثيرة، التي نظّمت العلاقة بين الإنسان والمعلومة الجاهزة، يبرز الذكاء الاصطناعي كمنجز إلكتروني متقدم. وإذا ما نظرنا الى المعلوماتية الحاسوبيَّة بشكلها العام، سنجد بأنّها ذات ذكاء آلي مبرمج على استقدام المعلومة من مصادر متعددة، بمعنى أن الذكاء الاصطناعي حاصل فعليَّاً منذ سنوات، وبما أن البرمجة تتطور وتتعقد أيضاً، فإنّ الذكاء الجديد يُعد طفرة تقنية مشجّعة على احتواء العالم المحيط بنا، عبر الكثير من الزوايا ذات الأسئلة الكبيرة. وسنعلم بأن Deepseek-R1 الصيني المتطور (تفهّم) معطيات العلم والحياة الإلكترونية، مثلما تفهم وجوده الضروري في سرديات الاقتصاد العالميَّة، ومن ثمَّ فإن أي ذكاء (مصنّع) يتطور على وفق آليات علميّة وبرمجيّة، وقد يسابق العقل البشري في إيراد المعلومات، وهذا حاصل؛ حتى اعتمد الأكاديميون والباحثون العلميون والإنسانيون وطلبة الدراسات العليا والأدباء والفنانون على مصدرياته الموثوقة. وكلّ مَن له شأن بحثي ومعلوماتي، في ثقافة عامة مشرعة للجميع. تبدأ بالاقتصاد العالمي ولا تنتهي بالموضوعة الثقافية والأدبية، كمعالجات بينية تتيح المعلومة من مصادرها الصحيحة، بوجود العديد من البيانات الحاسوبيَّة المخزّنة في كميات مليونية لا تُحصى. وهذا بذاته منجز حضاري متقدم وجدناه أمثولة في أن يكون عالم الحواسيب بميزات وتقنيات مكثفة، تساعد الدول في اقتصادياتها وسياساتها المؤسساتية وانتاجياتها المتنوعة ومجالات اهتماماتها العلمية المستقبلية.
السؤال الإشكالي: وماذا عن العقل البشري في سردياته التحليلية والانفعالية والتجميعية والخيالية في المجتمعات؟ وهل يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري؟
هذه الإشكالية المتسائِلة ذات طبيعة مزدوجة بين بيولوجيا الخيال التي نمارسها كبشر، وواقعية الآلة في تقصيها للمعلومة والإجابة عن الأسئلة المختلفة. إذ إن الوظيفة العقليّة في البيولوجية الإنسانيّة ذات قدرة على التخييل وصناعة الأجوبة الفائقة أكبر بكثير من قدرة الذكاء الاصطناعي المبرمج، فهذا الأخير يقول (أنا أنموذج لغوي كبير) والعقل البشري يفلسف إجابات كثيرة عبر اللغة. فالـ أنا الآليَّة محددة الفهم في وعي الإجابة، بينما يكون العقل البشري أكثر مرونة واستجابة في الاستدراك والتحليل والعمق الفلسفي. إنها تقنية ربانيَّة قادرة على أن تبلور الكثير من المشاهِد اليومية وتختزلها في الذاكرة. هذا من ناحية الفرق الجمالي الأكثر أهميةً. غير أن الذكاء الاصطناعي، إن كان ينيب عن الإنسان في أجوبة هندسية – علمية – لغوية – تاريخية – جغرافية- طبية، يكون أكثر قدرة على استيعاب مصدرياته التي وضعها الإنسان له، وأكثر دقة في التوصيف المدرسي المتعارف عليه، وأسرع بكثير من العقل البشري الذي يتأمل ويختزن ومن ثم يجيب. فالـ Deepseek-R1 و Chat GPT و Gmini ليست عقولاً بهذا المعنى، إنما هي مخازن لغوية ومعرفية وعلمية وثقافية واسعة، بلا شك إنها مساعدة للعقل البشري في استدعائه للمعرفة متعددة الأشكال. فالتفوق هنا هو في سرعة إيراد المعلومة، حتى من دون (تفكير)، فالمخزن الاصطناعي مخزن آلي بُرمج على استدعاء الأجوبة على وفق معطيات السؤال. لذلك فهو خازن لمخزن واسع جداً من المصدريات العلمية والإنسانية.
استعارة التسمية ممكنة القبول، باعتبار أن العقل البشري هو مخزن زمني واسع وكبير في خياله الاستدعائي. وهذا المخزن يخضع لبيولوجية معقدة بمصدرية التاريخ الزمني، عندما لا ينفصل عن الماضي بعلاقته المباشرة معه، ولا الحاضر بمجرياته ومعطياته المتعددة. ومن ثمَّ فإنّ مخزن الذكاء الاصطناعي هو عقل تجميعي ليس فيه من الإبداع شيء. وباستعارة (العقل) له يقتضي تكرار الإشارة من أنه مخزن مصدري متعدد الاهتمامات العلمية في الطب والاقتصاد والسياسة والجغرافية والتاريخ والأدب والمعرفة الشاملة، لكنه لا يعطي نبض العقل البشري في استقباله للمعلومة أو رفضه لها. فالذكاء الاصطناعي ليس تحليلياً كما العقل البشري. مع أنه مصدري مهم لجمع المعلومة وبثها من دون تردد. وهو ليس غبياً بالمطلق/ فالبيانات المخزّنة فيه تعادل مؤسسات بحثية كاملة، وهذه حقيقة مقرونة بما يختزنه من معارف وتحديثات على مدار الزمن العلمي الناجز. حتى لو افترضنا بأن العقل البشري المحاط بالأحداث الزمنية المتراكبة قابل للنسيان؛ وهذا افتراض طبيعي، فإن العقل الاصطناعي يستدرك النسيان بجاهزية المعلومات التي تتوفر عنده. ولهذا فهو يحتاج الى تحديث معلوماتي دائم، فتحديث مثل هذه البرامج الآلية بذكاءاتها الاصطناعية، تتطلب تنشيط فاعليتها وحركيتها على مدار الوقت العلمي والثقافي العام. ومن الواضح أن المعلومات يحدّثها الإنسان في تداعياته المعرفية واختراعاته واكتشافاته وتجاربه الكثيرة، وعلى هذا الأساس فإن مثل هذه البرمجيات تتبع السياقات العلمية والثقافية البشرية، وتتحدث مع مستجداتها واهتماماتها وإنجازاتها المختلفة على كل صعيد. ومن ثم فإن العقل الاصطناعي، يبقى تابعاً للعقل البشري في كل مراحله التطورية. وأن ثقافته هي ثقافة بشرية مطلقة تمّ تبويبها بشكل مثالي.
وارد بدر السالم