كنوز ميديا // ثقافة وفن
في هذا الكتاب المثير للجدل ((2024، يقدم جاك فان ريلار تحليلاً نقدياً شاملاً لإرث كل من سيغموند فرويد وجاك لاكان، أكبر رموز التحليل النفسي. ويطرح العديد من الأسئلة حول منهجياتهما وأفكارهما العلمية المزعومة، فمن خلال الاستفادة من الأبحاث الحديثة وفتح أرشيف فرويد، يكشف المؤلف عن الجوانب المثيرة للجدل في النظرية الفرويدية، بما في ذلك مزاعم الاكتشافات العلمية، وتفسيرات اللاوعي، وأساليب العلاج النفسي التي اقترحها فرويد. أما بالنسبة للاكان، الذي دعا إلى “العودة إلى فرويد”، فيُظهر المؤلف كيف أن أفكاره تطورت لتشكل نظامًا فلسفيًا جديدًا قائمًا على أفكار عصره، لكنه ظل محاطًا بالغموض والجدل.
الموضوعات الرئيسة:
• تناقضات فرويد: تحليل نقدي لأعمال فرويد الأساسية وتقييم موثوقيتها العلمية.
• لاكان والفلسفة: كيف استند لاكان إلى الفلسفات المعاصرة لإعادة تفسير التحليل النفسي.
• التحليل النفسي اليوم: هل لا يزال لهذه النظرية مكان في علم النفس الحديث الذي يركز بشكل أكبر على الأدلة العلمية والعلاجات السلوكية الإدراكية؟
يدعو فان ريلار القراء إلى إعادة التفكير في المكانة التي يحتلها التحليل النفسي في الطب النفسي الحديث وعلم النفس، ويثير التساؤل حول ما إذا كان هذا النهج لا يزال مناسبًا في عالم يعتمد على المنهجية العلمية والتجارب المثبتة.
هذا الكتاب يقدم رؤية للقراء المهتمين بفهم التاريخ الفلسفي والعلمي للتحليل النفسي، وكذلك أولئك الذين يسعون إلى رؤية نقدية بشأن مكانته الحالية.
**
في نظر الكثيرين، يُعتبر سيغموند فرويد الشخصية الأبرز في علم النفس في القرن العشرين، فهو يُنظر إليه كمؤسس لاكتشافات مهمة في مجالات علم النفس، والطب والعلاج النفسيين. ولكن، ماذا لو كان كل ذلك يتضمن قدراً من الأخطاء، والأوهام، أو حتى الشعوذة؟.
لقد كشفت العديد من التناقضات والخدع مؤخراً بفضل فتح أرشيف سيغموند فرويد، مما أدى إلى تغيير عميق في الصورة الشائعة عن فرويد وأعماله، في هذه النسخة الجديدة، وهنا يقدم الأستاذ جاك فان ريلار بطريقة منهجية ونقدية تحليلًا شاملاً لمنهج التحقيق في اللاوعي، ولـ”دعائم” النظرية الفرويدية، وتقنيات العلاج النفسي ونتائجها.
لقد خُصصت مساحة مهمة في الكتاب لجاك لاكان، أشهر محلل نفسي في البلدان اللاتينية، الذي دعا إلى “العودة إلى فرويد” لمواجهة انحرافات التحليل النفسي، لكنه طور تدريجياً نوعاً مختلفاً تماماً من التحليل النفسي، مستنداً إلى الفلسفات الرائجة في عصره.
إن عالم الأعصاب النمساوي سيغموند فرويد (1856 – 1939) هو مؤسس أحد أكثر فروع التحليل النفسي شعبية. ومع ذلك، فإن الآراء حول شخصه وأعماله متباينة للغاية. بالنسبة للبعض، يمثل فرويد أعظم اسم في مجال علم النفس، وعبقريًا يمكن مقارنته بكوبرنيكوس وداروين. إذ صرّح كورت آيسلر، أمين أرشيف سيغموند فرويد، قائلاً عنه: «يمكن القول، بحق، إن كتابات فرويد وحدها تستطيع أن تفتخر بأنها “أقلقت نوم العالم”» (ص. 305). كما كتبت جانين شاسيغيه، رئيسة الجمعية التحليلية النفسية في باريس، أن «على عكس ما يحدث في التخصصات العلمية الأخرى، نجد في شخص فرويد مبدعا فريدًا ولا يمكن تجاوزه» (ص. 152).
لكن هناك شخصيات أخرى لا توافق على هذا الرأي، فقد اختتم هانس أيزنك، أحد أشهر علماء النفس العلميين في القرن العشرين، كتابه أفول وسقوط الإمبراطورية الفرويدية بالقول: «فرويد كان بلا شك عبقريًا، ولكن ليس في مجال العلم، بل في مجال الدعاية، وليس في الإقناع المنطقي الصارم، بل في فن الإقناع، وليس في تطوير التجارب، بل في الفن الأدبي. مكانه ليس، كما كان يدّعي، مع كوبرنيكوس وداروين، بل مع هانس كريستيان أندرسن والأخوين غريم، كتّاب الحكايات الخرافية. […] التحليل النفسي هو عقيدة زائفة علميًا ألحقت أضرارًا جسيمة بعلم النفس والطب النفسي. كما كان له أثر سلبي في آمال وتطلعات عدد لا يحصى من المرضى الذين وثقوا بأغانيه المغرية”.
لا تزال نظريات فرويد مصدر إلهام للعديد من أشكال التحليل النفسي. ومع ذلك، فقد واجهت هذه النظريات انتقادات عديدة منذ بداية نشرها: كالتأثير الذي يتعرض له المرضى (وكان يُطلق عليه آنذاك الإيحاء)، نقص العلمية، الادعاءات العقائدية، التعميمات غير المنطقية، نسبة الكبت أو الاضطراب العقلي لأولئك الذين اعترضوا عليها، ضعف النتائج العلاجية، أو حتى تشكيل جمعية ذات طابع أشبه بطائفة.
إن عددا كبيرا من معجبي فرويد وأعماله، ومع مرور الوقت ومع توفر المزيد من المعلومات، غيروا من آرائهم. كان هذا هو حالي أيضًا. بدأت ثقتي في الفرويدية تتصدع خلال إقامتي لمدة ستة أشهر في جامعة نيميخن بهولندا عام 1968. رغم حصولي على تدريب في التحليل النفسي (تحليل تعليمي) استمر لمدة أربع سنوات، وإعداد أطروحة دكتوراه حول موضوع العدوانية في التحليل النفسي (1972)، وممارسة التحليل النفسي الفرويدي من عام 1969 إلى 1978، قررت في النهاية التخلي عن التحليل النفسي، بتأليف كتاب أوهام التحليل النفسي الذي نُشر عام 1981، والانتقال إلى التدريب في العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، الذي ما زلت أمارسه حتى الآن.
لقد ساهمت قراءة أعمال خبراء في التحليل النفسي، ممن فقدوا إيمانهم به، في تطوري الفكري. ومن بين هؤلاء:
-ألبرت إيليس، الحاصل على دكتوراه في علم النفس، الذي مارس التحليل النفسي لمدة ست سنوات. لكنه سرعان ما عدل منهجيته، مستبدلًا الجلسات الخمس الأسبوعية على الأريكة بجلسة أو جلستين وجهاً لوجه. بحلول عام 1953، تخلى عن لقب المحلل النفسي لصالح لقب المعالج النفسي. وفي عام 1955، أطلق على منهجه اسم “العلاج العقلاني”، بناءً على القدرة على تعديل التفكير باستخدام العقل. ثم أعاد تسميته في عام 1961 إلى “العلاج العقلاني الانفعالي”، وأخيرًا في عام 1993 إلى “العلاج السلوكي العقلاني الانفعالي”. وسرعان ما أدرك أن الاكتفاء بالاستماع والتفسيرات غير كافٍ. وبالنسبة له، يجب ممارسة طرق جديدة في التفكير وتجربة أفعال جديدة.
-ميليتا شميدبرغ، ابنة ميلاني كلاين، وهي طبيبة نفسية ومحللة تعليمية في الجمعية البريطانية للتحليل النفسي منذ عام 1933، تخلت هي أيضا عن التحليل النفسي لصالح العلاج النفسي الذي يمهد الطريق للعلاجات السلوكية المعرفية. كتبت عام 1975: «يعتمد التحليل النفسي على علاج مجموعة محددة للغاية من المرضى في ظروف مصطنعة إلى حد ما. ولم يحدث أبدًا إجراء تقييم جاد للنتائج العلاجية، لكن من المحتمل أن الآمال الأولى لم تتحقق. فضلا عن ذلك، من الصعب تقييم الاكتشافات العلمية الخاصة به. نجد أنفسنا أمام وفرة من الادعاءات المربكة، وأحيانًا المتناقضة، وقد يستغرق الأمر جيلًا كاملًا لفك هذه التصريحات وتقييمها بشكل صحيح. لقد أثار التحليل النفسي الاهتمام بالنفسية والعلاج، لكنه أعاق التقدم والملاحظات السريرية بسبب عقائديته وغموضه» (ص. 22).
-الطبيب النفسي توماس زاز، الذي تلقى تدريبه في معهد التحليل النفسي في شيكاغو وأصبح عضوًا بارزًا فيه، نشر كتاب أخلاقيات التحليل النفسي عام 1965. في هذا الكتاب، أبدى انتقادات مع تأكيده أن التحليل النفسي علم. ولكن في عام 1978، أصدر في نيويورك كتاب أسطورة العلاج النفسي، حيث غيّر رأيه تمامًا: أشار فيه إلى أن فرويد لم يقدم مساهمات جوهرية، وأن التحليل النفسي ليس سوى بلاغة خالية من الصلة بالعلم، ووصفه بأنه “خاطئ ومخادع أساسًا” (ص. 102).
في عام 2004، شاركت في تحرير الكتاب الأسود للتحليل النفسي (ماير وآخرون، 2005)، وفيه عرض عدد من عشاق التحليل النفسي السابقين أخطاء ومغالطات عالم الأعصاب النمساوي. من بين هؤلاء نقاد مثل آرون بيك (جامعة بنسلفانيا)، وفلاسفة معرفيون مثل فرانك تشيوفي (جامعة كينت)، ومؤرخون مثل بورش-جايكوبسن وفريدريك كروز (جامعة بيركلي)، وهان إسرائيلس (جامعة ماستريخت)، وشامداساني، وإدوارد شورتر (جامعة تورنتو)، وفرانك سولاوي (جامعة بيركلي).
من غير المنطقي رفض هذه الانتقادات بدعوى مقاومة قبول أهمية اللاوعي والجنس. فالذين خاب أملهم في التحليل النفسي يؤمنون تمامًا بوجود العمليات اللاواعية وبأهمية الجنس، لكنهم يختلفون في رؤيتهم عن الفرويديين. وما دفعهم إلى إعادة النظر هو اكتشافات من أرشيف ومراسلات فرويد، والفحص الدقيق للمنشورات الفرويدية، والتقدم في علم النفس العلمي، والتفكير الفلسفي، وقلة فعالية العلاج الفرويدي مقارنة بعلاجات نفسية أخرى.
فرويد نفسه ناقش احتمال أن بعض الأشخاص الذين انخرطوا في التحليل النفسي ثم تركوه قد فقدوا قدرتهم على الفهم. قال: “يمكن أن يحدث للمحللين النفسيين ما يحدث للمرضى أثناء العلاج. برأيه، أي محلل نفسي سابق هو ضحية للكبت أو يعاني من اضطراب عصبي.
في الواقع، التخلي عن التحليل النفسي غالبًا ما يكون خطوة صعبة للغاية، خصوصًا إذا كان مصدر رزق مربح من دون بدائل مماثلة. لكن مؤلفي الكتاب الأسود للتحليل النفسي كانوا جميعًا أكاديميين جامعيين أو ممارسين لم يكن لتحولهم تأثير كبير في دخلهم أو سلطتهم. وبصفتي عُينت محاضرًا بدوام كامل في عام 1974 (وأستاذًا في عام 1980) في جامعة لوفان، كنت من المحظوظين الذين تمكنوا من الملاحظة والقراءة والتأمل بحرية.
ومن اللافت للنظر أن فرويد نفسه أشار إلى أن هناك أسبابًا سيئة للاهتمام بتحليله النفسي أو تبجيله. فقد اعترف للطبيب النفسي والفيلسوف لودفيغ بينسوانغر قائلاً: “كنت دائمًا أعتقد أن أول من سيتهافت على مذهبي هم الخنازير والمضاربون” (ص. 10). على حد علمي، لم يذكر هؤلاء الأتباع إلا مرة واحدة في محادثة. أما ألبرت إيليس، الذي كان لا يزال محللًا نفسيًا، فكتب: “يبدو أن التحليل النفسي هو علم يجذب أكثر من غيره من التخصصات العلمية ممارسين يعانون من اضطرابات عاطفية، متحيزين، وغير علميين في إمكانياتهم” (ص. 127).
أما الطبيب النفسي والمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان (1901-1981)، الذي قدم مثالًا على السخرية والتحررية، فقد أضفى على تلامذته دوافع مشكوكا فيها. أنهى لاكان درسه حول الأخلاقيات بمبدأ: “أقترح أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون المرء مذنبًا به، في الأقل من المنظور التحليلي، هو التنازل عن رغبته. […] ما أسميه التنازل عن الرغبة تصاحبه دائمًا خيانة في مصير الشخص” (1986، ص. 368، 370). ومن الجدير بالذكر أن لاكان لا يقول إن المرء مذنب بـ”الخضوع لرغبته”، بل “بالتنازل عنها”. ويلخص تلامذته ذلك بالقول: “ إن أخلاقيات التحليل النفسي ليست تلك القائمة على قانون الواجب لخدمة الرفاه الجسدي، النفسي، والاجتماعي، بل قانون الرغبة، الذي هو فن الجمع بين الإغراء والأناقة” (جوليان، ص. 31)؛ “لا توجد أخلاقيات سوى تجسيد الرغبة. ما عدا ذلك هو مجرد أدب” (راي، ص. 209).
ما يخلص إليه المؤلف:
في البداية، كان لدى فرويد الرغبة في تقديم العلم، حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ساعيا إلى أن يكون جزءًا من مجتمع الباحثين في مجالات علم الأعصاب والطب النفسي وعلم النفس. في عام 1913، نظمت الجمعية الألمانية للطب النفسي مؤتمرًا في برسلاو، كان محور الحديث فيه هو التحليل النفسي. وقد صرح البروفيسور كريبيلين هناك بأن “ما هو جيد في التحليل النفسي ليس جديدًا وأصله يعود بشكل أساسي إلى جانيت” (BJ-S، ص 138).
أما هوش، الذي أجرى دراسة حول التأثيرات العلاجية للتحليل النفسي، فقد توصل إلى نتائج سلبية للغاية. وأكد أن التحليل النفسي غالبًا ما يسبب ضررًا أكثر مما يحققه من فوائد، ووصفه بأنه “تقنية قديمة للإيحاء ترتدي ملابس جديدة زائفة الطابع العلمي” (المصدر نفسه، ص 137). كما استشهد ساخرًا بما قاله شتيكل أثناء افتتاح مؤتمر للتحليل النفسي: “في هذا اليوم الاحتفالي، نشعر وكأننا إخوة في نظام يتطلب تضحية كل فرد لخدمة الجماعة” (المصدر نفسه، ص 136).
كان مؤتمر برسلاو نقطة تحول في مسيرة فرويد المهنية. ومنذ تلك اللحظة، ركز على تشكيل أتباع له وتطوير حركة يطمح إلى أن يكون قائدها. وأصبحت التحليلات التعليمية وسيلته لنشر عقيدته بطريقة طقسية، مما أتاح له أيضًا كسب رزقه بسهولة. وبذلك تحول التحليل النفسي إلى مشروع خاص: “شركة سيغموند فرويد”. لقد أصبح رجل أعمال وزعيمًا لما وصفه البعض بـالـ “طائفة”.
في الأول من يناير 1912، كتب يوجين بلولر إلى فرويد لتبرير انسحابه من الجمعية التحليلية قائلاً: “التصريح اللاذع لهوش بأن التحليل النفسي هو طائفة أصبح أمرًا واضحًا”. وفي عام 1920، كتب هافلوك إليس، الذي كانت لفرويد علاقة مراسلة ودية معه: “من المؤسف أن فرويد كان في البداية زعيم طائفة، على غرار الطوائف الدينية”.
وفي هذا السياق، يجب أن يُفهم مصطلح “طائفة” على أنه يشير إلى منظمة مغلقة تتميز بعبادة المؤسس، وطقوس مكلفة للانضمام، ودراسة مطولة وتفسير لا نهائي للنصوص المقدسة، وتشويه تاريخ الحركة، ونشر الأساطير، وإقصاء المنشقين، والتحصين ضد أي نقد. وقد أظهرت صوفي روبرت (2023)، في عملها البارز، أن الجانب الطائفي للفرويدية تفاقم مع التيار اللاكاني.
لقد أراد فرويد أن يكون للتحليل النفسي مكانة في علم النفس المرضي والطب النفسي، كما كان لشاركو في علم الأمراض العصبية. كان يطمح إلى جعل التحليل النفسي علمًا طبيعيًا (Naturwissenschaft)، لكنه فشل في ذلك. وقد خلص بيتر ميداوار، الحائز على جائزة نوبل في الطب، في ختام دراسته للتحليل النفسي إلى أن “هناك بعض الصحة في التحليل النفسي، تمامًا كما كان هناك بعض الحقيقة في المغناطيسية الحيوانية، [التي تعرف أيضًا باسم المسمرية (التنويم المغناطيسي)]، وعلم فراسة الدماغ (على سبيل المثال، مفهوم تحديد الوظائف في الدماغ). ومع ذلك، إذا أخذنا التحليل النفسي ككل، فإن التحليل النفسي هو الفشل الذريع. والأكثر من ذلك، هو نتاج نهائي endproduct) )، كالديناصورات أو المنطاد، لا يمكن بناء نظرية أفضل على أنقاضه” (ص. 130).
لقد تولى لاكان التحدي وسعى ليجعل من التحليل النفسي علمًا دقيقًا. وقد سرد روستانغ، أحد أبرز تلامذته، تفاصيل هذه المحاولة التي لم تنجح، في كتابه من الالتباس إلى المأزق (دار مينوي، 1986).
في عام 1975، ألقى لاكان محاضرات في الولايات المتحدة. وفي جامعة ييل، وقال أمام مجموعة من المحللين النفسيين: “في الواقع، الشيء الفظيع هو أن التحليل النفسي في حد ذاته يمثل حاليًا آفة؛ أعني أنه بحد ذاته عرض اجتماعي، وهو آخر أشكال الجنون الاجتماعي التي حدث تصورها… المثير للاهتمام هو أن فرويد كان يعتقد بأنه يمارس العلم. لكنه لم يكن يمارسه، بل كان يبتكر ممارسة معينة يمكن وصفها بأنها آخر زهور الطب” (1975b: 18) .
بعد ذلك ألقى لاكان محاضرة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حول مفهومه للطبيعة البشرية (1975 ج). لم يفهم اللغويون والمناطقة وغيرهم من الباحثين رفيعي المستوى الذين استمعوا إليه شيئًا مما قاله تقريبًا (توركل: 290)، وعندما اعترض نعوم تشومسكي أجاب: “أنا شاعر”. وقد قال تشومسكي في ما بعد: “أعتقد بصراحة بأنه كان دجالاً واعياً بذاته، وأنه كان ببساطة يتلاعب بالمجتمع الفكري في باريس ليرى كم من الهراء يمكنه الاستمرار في إنتاجه ويظل يؤخذ على محمل الجد” (ص 32).
في تلك الحقبة، اعترف لاكان بوضوح بالمشكلات التي تواجه التحليل النفسي. وبعض اعترافاته تصلح كخاتمة:
*عن الحكمة، في عام 1975: التحليل النفسي هو علاج للجهل؛ ليس له أي تأثير في الهراء. هذا في الحقيقة شيء أساسي. نحن لا نأتي بحكمة؛ وليس لدينا ما نكشف عنه” ( 1975 د: 235).
*حول الطابع العلمي، في عام 1977: “التحليل النفسي ليس علماً. ليس لديه مكانة علمية، بل لا يستطيع سوى انتظارها، والأمل فيها. إنه وهْم – وهم ننتظر منه أن يولد علماً. ويمكننا الانتظار طويلاً! ليس هناك تقدم، وما ننتظره ليس بالضرورة ما نحصل عليه. إنه وهم علمي” (1978: 8).” يجب أن يؤخذ التحليل النفسي على محمل الجد، على الرغم من أنه ليس علمًا. كما أثبت كارل بوبر بوضوح أنه ليس علمًا على الإطلاق، لأنه غير قابل للدحض. إنه ممارسة، وممارسة ستستمر ما دامت تستمر. إنها ممارسة للثرثرة” (1979a: 5s).”
*حول الأخلاق، في عام 1977 قال لاكان: “ممارستنا هي نوع من النصب والاحتيال، نخدع الناس ونبهرهم بكلمات منمقة، وهذا ما يسمى عادة بالبهرجة. […] من الناحية الأخلاقية، مهنتنا لا يمكن الدفاع عنها؛ لهذا السبب سئمت منها، لأن لديّ أنا عليا مثلي مثل أي شخص آخر” (1981: 5).”
إن لاكان، الذي سعى جاهداً ليكون لوثر التحليل النفسي، يعترف في رسالة حل مدرسته: ‘لقد فشلت – أي تاهت أفكاري. […] نحن نعلم الثمن الذي دفعه فرويد حين سمح لمجموعة التحليل النفسي بالسيطرة على الخطاب وتحويلها إلى كنيسة’ (1980).”
توفي لاكان في العام التالي. وما زال تلامذته يكدحون لفك شفرة نصوصه الغامضة… متجنبين أخذ تلك النصوص التي أشرنا إليها والتي هي واضحة كالشمس على محمل الجد. وبعد ثلاثين عامًا من وفاته، صرح جان-آلان ميلر: “ لقد بدأ لاكان للتو: سيُبقِي الأكاديميين منشغلين لمدة ثلاثمئة عام” (2011: 327). هل هذا مزاح؟ أم عمى؟ أم تضخم الأنا؟.
في الواقع، أدرك عدد متزايد من علماء النفس والمعالجين النفسيين والفلاسفة، أنه لا يوجد الكثير مما يمكن الاحتفاظ به. في أواخر حياته، كان لاكان أكثر بصيرة من صهره، حين قال: “ المسألة هي معرفة ما إذا كان فرويد حدثًا تاريخيًا أم لا. أعتقد بأنه أخفق. الأمر كما هو الحال بالنسبة لي، في وقت قريب جدًا، لن يهتم أحد بالتحليل النفسي” (1981: 5).”