الإمام المغيب السيد موسى الصدر والشهيد السيد نصرالله : قيادة المقاومة الإسلامية ما بين التغييب والاستشهاد

بقلم // د. محمد العبادي

إنّ قلمي لقاصر عن الحديث عن قائدين عظيمين لمرحلتين من مراحل العمل الكبير، لكن لا بأس بالحديث عنهما بقدر وسعي لا بقدرهما ( وسالت أودية بقدرها).

إنّهما قائدان يمثلان إنعطافة في العمل السياسي والثقافي والإجتماعي؛ بل في العمل بساحاته الواسعة .

لنتحدث عن الإمام القائد السيد موسى الصدر أولاً ومن ثم نأتي على سيد المقاومة الشهيد نصر الله.

لقد كان الإمام موسى الصدر شخصية تفيض بالطاقة والحيوية، وسماته الجسمية والشخصية تشع منها القوة والقدرة والسماحة والجمال. وهو شخصية جامعة ولن نتحدث عن جميع ميزاته، لكننا سنتحدث عن ميزة واحدة، وربما يترشح منها المعاني الفريدة الأخرى في خصائصه القيادية إلى ذهن القارئ ؛ وهذه الميزة هي دعوته للوحدة الوطنية والإسلامية؛ فبعد عودته من النجف في عام 1959م بدأ بتوحيد صفوف الشيعة ، ورص صفوفهم لتكون كالبنيان المرصوص مع إخوانهم من المسلمين السنة؛ بل مع اللبنانيين جميعاً. إنّه شخصية وحدوية.

لقد شهد له مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بيروت وأماكن أخرى بذلك الخطاب الوطني الجامع فهو يقول : (نحن في لبنان نعيش في بلد متعدد الطوائف والأديان، وهذا التنوع هو مصدر قوتنا وليس ضعفنا…).

وكان يتعدى في خطابه الأطر القطرية ليدعو إلى وحدة المسلمين: ( الإسلام واحد والمسلمون إخوة. لافرق بين شيعي وسني إلا بالتقوى. علينا أن نعمل على بناء جسور التواصل بين المذاهب الإسلامية، وأن نركز على مايجمعنا بدلاً من أن نركز على مايفرقنا).

إنّ القائد الحقيقي هو الذي يجمع بين النّاس على اختلافهم، وهو ما كانت تموج به كل خطابات الإمام الصدر المغيب؛ فقد كان يقول 🙁 المسيحيون هم شركاؤنا في الوطن، ولايمكن لأي طائفة أن تبني مستقبلها دون الأخرى. الإسلام يدعو إلى التعايش السلمي بين جميع البشر، ويجب أن نطبق هذه القيم في حياتنا اليومية )، ويقول أيضاً: ( الوحدة الوطنية هي الأساس لبناء الدولة القوية) . لقد ساهم السيد موسى الصدر في تهدئة الأجواء الطائفية المشحونة، وقام بتعزيز العلاقات وتعميقها بين المسلمين والمسيحيين، وأظهر أنه رجل والوحدة والإستقرار في لبنان .

لم يكتف السيد الصدر بالخطاب الوحدوي؛ بل شارك في المناسبات الدينية المسيحية وتقديم التهنئة بالأعياد؛ كما هو بالنسبة لزيارته لكنيسة مار الياس حيث قال فيها: ( نحن جميعاً أبناء هذا الوطن، ولنا الحق في العيش بسلام وكرامة، ديننا الإسلامي يعلمنا أن نحترم الآخر ونعمل معه من أجل الخير العام )، وأيضاً أسس علاقات وثيقة وقوية مع البطريرك الماروني انطونيوس شحادة، وعقد معه لقاءات مشتركة تشير إلى العلاقات الوطيدة المضطردة، وأيضاً قام الإمام الصدر بمشاريع وطنية في خدمة الصالح العام مثل بنائه لمستشفى النبطية الذي يقدم خدماته لجميع المواطنين دون تمييز، وتأسيسه لمؤسسة الإسكان الشعبي لتحسين ظروف المعيشة للأسر اللبنانية، وتأسيسه لصندوق الزكاة الذي كان يقدم مساعدات مالية وغذائية ويغطي أكثر من (10.000) أسرة ، وأسس جمعية الرسالة التي تقدم المساعدات الإنسانية والإجتماعية للناس ، وأيضاً عمل على تنفيذ مشاريع الري في البقاع لدعم المزاعين وتحسين الإنتاج الزراعي وغيره.

إنّها خدمات جليلة قدمها ذلك السيد المغيب، والذي زرع الوعي السياسي والإجتماعي داخل الشعب اللبناني، لكن نشاطه المفرط لم يعجب بعض القوى السياسية في الداخل أو الخارج اللبناني؛ فعملوا على تغييبه .

ربما لم يستطع بعضهم أن يشاهد قيادته لحركة أمل آنذاك وهي تشق طريقها وتسير في توحيد الصفوف نحو المستقبل، ولم يتحمل بعضهم قيادته للمجلس الشيعي الأعلى، وهو يتقدم نحو توحيد المسلمين، ورأى في ذلك مزاحمة لقيادته .

إنّ ذلك التغييب للإمام الصدر لايمكن فصله عن الصراعات العربية أو الدولية، ولايمكن فصله عن التقارير الأمنية السلبية والسرية التي سبقت زيارته، والتي رأت في السيد الصدر ورؤيته الشاملة تهديداً سياسياً أو أيديولوجياً جدياً لمخططاتها، لكن في كل الأحوال يبقى النظام الليبي السابق مسؤولاً بشكل مباشر عن تغييب الإمام موسى الصدر، لأنّه ذهب بدعوة رسمية إلى طرابلس، ولم يخرج من الأراضي الليبية، وكان بإمكان القيادات اللبنانية في حينها أن تقف على جلية الأمر أو فك قيده لو ظفرت بواحد من أبناء القذافي أو الإيقاع به، لكن ربما حجزهم عن ذلك عاقبة الأمور .

إن تغييب الإمام موسى الصدر، يبقى مثالاً صارخاً على التآمر ضد الشخصيات الكبيرة المؤثرة وتغييبها عن الساحة، لكن لبنان وكثير من البلدان رغم خسارتها لمثل هذه الشخصية الشاملة؛ بقي شامخاً واستمر على نهجه القويم المستقيم، وبرزت شخصيات تجسد كلماته وتقدم جهوداً جديدة .

أما السيد الشهيد نصر الله؛ فقد كان فرداً في حكمته وحنكته القيادية، وكم اشتقنا لإطلالته التي ينثر فيها درره على النّاس. إنّ السيد نصر الله كان يمثل مدرسة في الثقافة والسياسة والتضحية والجهاد، وكانت شخصيته تموج بالمعارف الأصيلة، ولم يذهب عن لبنان حتى قتل الآف الصهاينة، وحطم آلتهم العسكرية وكسر غرورهم .

نعم كان ولا زال وسيبقى السيد نصر الله يمثل الصورة الحقيقية لقائد القلة المؤمنة بقضيتها، وانتصرت على اسرائيل وحلفائها المستعمرون الذين صنعوها، وكان يمثل القائد الحقيقي الذي وقف صامداً في نصرة القضية الفلسطينية. إنّه ومعه الأحرار في لبنان والعالم يمثلون بقايا الشرف والكرامة والشجاعة في الأمتين العربية والإسلامية . ويقولون (يلد الدهر كوكبا كل ألف ..)، وهو يمثل واحداً من أولئك الكبار بشخصيته الإستثنائية والتي حظيت بإحترام وتقدير حتى الأعداء، إنّه يمثل الندرة في زمن الندرة، ويمثل الأثر والتأثير في زمن إنعدام الأثر والتأثير ، وهو يمثل التاريخ في زمن ضياع التاريخ .

لم يبق على تشييع نعش السيد الأجل نصر الله سوى أيام، وأظن أن الأمة اللبنانية والإسلامية ستحضر بقلوبها ومشاعرها لمراسم تشييعه؛ إنّه يمثل وجدانها ويمثل وجودها وحقيقتها لأنّه هو روحها وقلبها التي أراد الصهاينة قتله وتصفيته حتى لا ينبض في جسدها ويمدها بأسباب القوة والحياة ، لكنهم كانوا خاطئين في قتله؛ فالأمة التي أنجبت السيد الشهيد نصر الله هي أمة ولود، وسيرى الصهاينة أن دماء الشهداء وعلى رأسهم سيد شهداء المقاومة هي وقود يبعث الحياة في شرايين الأمة.

إنّ دماء الشهداء تقول : على الأمة أن تحارب العدو بنهج جديد يستهدف قطف الرؤوس التي تقف وراء إستشهاد بعض قادة المقاومة ( وقتل داود جالوت )، إنّ هذا الأسلوب كفيل بتحقيق نتائج سريعة وكبيرة، ويقذف الرعب في قلوب الأعداء، وأظن أن هذا الأسلوب يمكن أن يجذب حتى المافيات الدولية وتسخيرها( واللي عنده فلوس يگعد علی الرّوس). وقد رأينا كيف نَفذ بعضهم إلى حلبة الأعداء وقواعدهم الصلبة وأنزل في ساحتهم الموت وازعجهم، علينا أن نذيقهم بأسنا، ونشعرهم بعدم الأمن ( ولو شئنا استطعنا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى