طلب مني مَن لا يُرَدّ له طلب أنْ أكتب في المراد من قوله تعالى : وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ … إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) ؟؟

بقلم // حسن عطوان 

وماذا بشأن ما يُذكر في بعض التفاسير من أنَّ الآيات المباركات تشير الى حادثة ، خلاصتها : أنَّ النبي داوود ( عليه السلام ) قد أُعجب بزوجة قائد عسكري في جيشه ، فأوصى بإرساله الى لهوات الحرب وفي مقدمة الجيش ليُقتَل فيتزوج بزوجته ؟!

 

🖋 الجواب :

 

قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم :

 

( اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ * وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ * وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلى‏ داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ * إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ * فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وَ حُسْنَ مَآبٍ * يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ )

[ سورة ص : 17 – 26 ] .

 

🖋 هذه الآيات المباركات والآيات السابقة يواسي الله سبحانه فيها رسوله الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بعدما تعرض لأذىً كبير من قبل المشركين ، ونسبتهم إليه ما لا يليق به .

 

هذه المواساة كانت بذكر قصص مَن قبله من الأنبياء وما تعرضوا له من أذىً ايضاً من أقوامهم ، ففي هذه الآيات المباركة إشارة إجمالية لما حصل مع النبي داود ( عليه السّلام ) الذي منحه اللّه قدرة واسعة ، حتّی أنّ الجبال والطيور كانت مسخّرة له ، ولكن مع هذه القدرة العظيمة التي منحها إيّاه الله جلَّ وعلا لم يسلّم من تجريح الناس وبذاءة لسانهم ، وفي ذلك مواساة للنبي الكريم ( صلّی اللّه عليه وآله وسلّم ) في أنَّ مثل هذا الأذى ليس مختصاً بك ، وإنّما شاركك فيه كثير من الأنبياء عليهم السّلام من قبل .

 

🖋 يقول تعالى :

 

– ( اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )

 

– ( الْأَيْدِ ) بمعنی القدرة ، وتأتي أيضاً بمعنی النعمة .

 

وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود ، إذ كان يتمتّع بقوّة جسدية ، فهو الذي قتل الطاغية جالوت بضربة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه عليه ، فأسقطه من فرسه مضرّجاً بدمه .

 

وقد أسس داوود دولة قوية ، ( وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ ) .

 

وأمّا من حيث النعم الإلهيّة ، فقد أنعم عليه الله سبحانه بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية .

 

ف ( أيْد ) جمع ( يَد ) وقد استعملت هنا لكونها مظهر القوّة والنعمة والملك .

 

– لفظة ( أوّاب ) مشتقّة من ( أوب ) وتعني العودة الإختيارية إلی أمر ما ، وهي هنا علی صيغة المبالغة تشير إلی أنّه كان كثيراً ما يعود إلی اللّه سبحانه وتعالی ، وكان يتوب عن أصغر غفلة .

 

– وتشير الآيات الكريمة الى أنًَ من النعم التي أنعم الله عزَّ وجلَّ بها على داوود أنّه أعطاه القدرة على القضاء ، ( وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ ) .

 

ف ( الخطاب ) تعني أقوال طرفي النزاع ، أمّا ( فصل ) فإنّها تعني القطع ، وأقوال طرفي النزاع لا تُقطع إلّا إذا حكم بينهم بالعدل ، ولهذا فإنَّ هذه العبارة تعني : أنَّ الله سبحانه سدّده للقضاء بالعدل .

 

وبعبارة : فصل الخطاب هو تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة شخص لغيره ، وتمييز حقه من باطله ، وينطبق ذلك علی القضاء بين المتخاصمين .

 

وقيل : إنَّ المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مُخلّاً ولا بإطنابه مُملّاً .

 

فيكون المراد بذلك هنا هو أنَّ اللّه سبحانه أعطی داود منطقاً قويّاً يدلّل علی دقّته وعمق تفكيره ، ولم يكن هذا خاصّاً بالقضاء وحسب .

 

🖋 والخلاصة : أنّه لمّا حكی سبحانه عن المشركين إتهامهم لنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ودعوته الحقّة بأنّها ذريعة لكي يصل الى الرئاسة .

 

ثم استهزائهم بيوم الحساب وعذابه ، ( وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) [ سورة ص : 16 ]

 

لفظة ( قط ) : تعني قطع الشي‌ء عرضاً ، في مقابل كلمة ( قد ) : التي تعني قطع الشي‌ء طولاً .

وكلمة ( قط ) هنا تعني نصيباً أو سهماً .

 

فهؤلاء المغرورون بلغ بهم الغرور إلی حد الإستهزاء بوجود يوم القيامة ، إذا قالوا : لماذا لا يوفّينا اللّه بسرعة سهمنا وحصتنا من العذاب ؟!

 

من هنا يواسي الله سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بالصبر ، وألّا يفُتّ استهزاء الجهلة بعضده ولا يوهن من عزمه ، وأنْ يضع نصب عينيه مسيرة السابقين من الأنبياء والصالحين ممّن تعرض للأذى والإستهزاء كذلك .

 

ومن هؤلاء النبي داوود ( عليه السلام ) .

 

🖋 إذا عرفنا ذلك فأعود لتفسير الآيات مورد السؤال : وهي قوله تعالى :

 

– ( وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) :

 

( الْخَصْمِ ) : قوم بينهم خصومة ومنازعة .

 

( تَسَوَّرُوا ) : التَّسَوَر : الإرتقاء الى أعلى السور ، وهو هنا حائط ما .

 

( الْمِحْرابَ ) : موضع صلاة أو موضع خلوة للعبادة ، وكان النبي داوود معروفاً بكثرة عبادته .

 

– والمعنى : هل أتاك يا محمد خبر المتخاصمين إذ علوا سور محراب داود ؟؟

و الاستفهام للتشويق إلی استماع الخبر .

 

– ( إِذْ دَخَلُوا عَلى‏ داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) :

 

والمعنی : أنّهم دخلوا علی داوود وهو في محرابه بالإرتقاء على سوره ، وليس من الطريق الطبيعي ، ولذلك فزع منهم لمّا رآهم قد دخلوا عليه من غير الطريق العادي و بغير إذن .

 

– ( قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ ) : أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلماً علی بعض .

 

– ( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ ) :

 

الشطط : الجور .

 

أي فاحكم بيننا حكماً بالحق ، ولا تكن جائراً ، ودلنا علی العدل من الطريق .

 

– ( إِنَّ هذا أَخِي ) : كلام لشخص من أحد الفريقين يشير إلی آخر من الفريق الآخر بأنَّ هذا أخ له .

 

– ( لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) :

 

النعجة : الأنثى من الغنم .

( أَكْفِلْنِيها ) : أي اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي ، أي دعّني أضمها الى نعاجي .

 

( و عَزَّنِي فِي الْخِطابِ‌ ) أي غلبني فيه .

 

– ( قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ) :

 

هذا هو جواب النبي داود لأحد المتخاصمين .

 

والخلطاء : بمعنى الشركاء في شيء ، ولعل المراد هنا : مَن كان بينهما ارتباط ما .

 

🖋 فما هو الإشكال في هذا الجواب ؟؟

 

الإشكال أنّه حكم قبل أنْ يستمع لكلام المتخاصم الآخر ، فإنَّ من الجائز أنْ يكون عند الآخر من المبررات ما يكشف عن كونه محقّاً فيما يطلبه .

 

جاء في بعض الأخبار : أنّه ( إذا جاءك الخصم وقد فقئتْ عينه فلا تحكم له فلعله يأتيك خصمه وقد فقئت عيناه ) .

 

لكن صاحب النعجة الواحدة ألقی كلامه بنحو أثار عطف داوود فبادر إلى إعطاء الحكم مباشرة .

 

وجواب النبي داوود ( عليه السلام ) في حد ذاته وإنْ كان صحيحاً وعادلاً ، ويشهد لذلك أنّه لو كان الطرف الثاني لديه ما يبرر فعله لأعترض على ما قاله المدّعي ، فسكوته خير دليل علی أنّ القضيّة هي كما طُرحتْ ، ولعله لذلك لم يحتج داوود الى الإستماع الى كلام الطرف الآخر .

 

لكن من آداب مجلس القضاء أنْ يستمع القاضي لكلا طرفي الخصومة ، حتى لو لم يكن لذلك فائدة تُذكر ، في حالة ما لو كانت القرائن واضحة في حقّانية المدّعي .

 

– ( وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ ) :

 

قيل : إنَّ الظن هنا بمعنى العلم .

وقيل : أنّه بمعناه المعروف ، الذي هو بدرجة دون درجة العلم والجزم .

 

ورجّح بعض المفسرين المعنى الأول بقرينة أنَّ توبة داوود وإستغفاره جاءا مطلقيَن ، ولو كان الظن بمعناه المعروف كان الإستغفار والتوبة علی تقدير كونها فتنة واقعاً .

 

ولكن يردّه : أنَّ ظن مثل داوود بأنّه قد فعل ما لا ينبغي كافٍ لدفعه للإستغفار والتوبة .

 

( وَ خَرَّ ) : مشتقّة من ( خرير ) وتعني سقوط شي‌ء من علو ، وهنا كناية عن السجود .

 

وكلمة ( راكعاً ) : إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللغة ، أو لكون الركوع مقدّمة للسجود .

 

( وَ أَنابَ ) : أي عاد الى ربّه بالتوبة .

 

🖋 والمعنی : إنَّ داوود عرف – ولو بنحو غير جازم – أنَّ هذه الواقعة إنّما كانت امتحاناً وإختباراً له ، وأنّه قد أستعجل في ترك أمر من مستحبات مجلس القضاء ، أو أنّه استعجل في آلية الوصول لقضائه بين المتخاصميَن فاستغفر ربه ، وخرَّ منحنياً تائباً إليه .

 

🖋 وأكثر المفسرين تبعاً للروايات علی أنَّ هؤلاء الخصم الذين تسوروا علی داوود محرابه كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه ، وبغض النظر عن الروايات فخصوصيات القصة كتسورهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي بحيث أفزعوه ، وكذا تنبهه بأنَّ القضية كانت اختباراً من الله له وليست واقعة عادية ، وقوله تعالی بعد ذلك : ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ ) الظاهر في أنَّ الله ابتلاه لينبهه ويسدّده في خلافته وحكمه بين الناس ، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة وقد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس .

 

🖋 ومن المفسرين مَن يرى أنَّ المتخاصمين الداخلين على داوود كانوا بشراً والقصة علی ظاهرها ، وحكم داوود كان صحيحاً بتقدير أنَّ مراده : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ ) إذا لم يكن لخصمك حجة ودليل على ذلك .

 

🖋 ولكن يرد على ذلك : أنّه لو كان الأمر كذلك فما الخطأ الذي دفع داوود الى الإستغفار والتوبة ؟!

 

🖋 والراجح : أنّه سواء كانت الواقعة إمتحاناً لداوود ، وأنَّ الخصمين كانا من الملائكة ، أو كانا من البشر ، والواقعة حقيقية ، فإنَّ داوود لم يُخطئ في أصل الحكم ، كيف وهو نبي معصوم ؟!

 

لا سيّما وأنَّ الله سبحانه صرح قبل ذلك بأنّه قد آتاه الحكمة وفصل الخطاب ، ولا يلائم ذلك خطأه في أصل الحكم والقضاء ، فمخالفته ليست أكثر من مخالفةٍ للأولى ، أو أنّها مخالفة إجرائية في آلية الوصول لحكمه .

 

🖋 وعليه : فالذي جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن لا يتعدّی أنَّ قوماً تسوّروا جدران محراب داوود ( عليه السّلام ) ليحتكموا عنده ، وأنّه فزع عند رؤيتهم ، ثمّ استمع إلی أقوال شخصٍ منهم ، قال : ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) ، أي أنّه طلب منّي ضم نعجتي الوحيدة الى نعاجه ال ( 99 ) ، فأعطی داوود الحقّ لهذا المدّعي ، ورغم أنّه يعلم بأنَّ أصل الحكم كان عادلاً ، لكنّه ندم علی إستعجاله بالبتّ بالحكم قبل سماعه مبرر الطرف الآخر ، وطلب من اللّه سبحانه وتعالی المغفرة والعفو .

 

🖋 ولكن ..

 

روي في الدر المنثور وتفسير القمي وغيرهما : قصة دخول الخصم علی داوود ، وقد لخصها في مجمع البيان ، كما يأتي :

 

إنَّ داود كان كثير الصلاة فقال : يا رب فضّلتَ علي إبراهيم فاتخذته خليلاً وفضلت علي موسی فكلمته تكليماً ، فقال : يا داود إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله ، فإنَّ شئت ابتليتك ، فقال : نعم يا رب فابتلني .

فبيّنا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة ، فأراد أن يأخذها فطارت إلی كوّة المحراب ، فذهب ليأخذها فإطّلع من الكوة فإذا امرأة ( أوريّا ) تغتسل فهواها ورغب بالزواج بها ، فبعث بأوريا إلی بعض سراياه ، وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففُعِل ذلك وقُتل ، فلما انقضت عدتها تزوجها ، فولد له منها سليمان .

 

فبيّنا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما ، فقالا لا تخف خصمان بغی بعضنا علی بعض … الى آخر الآية الكريمة ، فنظر أحد الرجلين إلی صاحبه ثم ضحك ، فتنبه داود علی أنّهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه علی خطيئته ، فتاب وبكی حتی نبت الزرع من كثرة دموعه .

 

🖋 وردّ صاحب مجمع البيان على ذلك – و نعم ما ردّ به – :

 

أنّه ممّا لا شبهة في فساده ، فإنَّ ذلك ممّا يقدح في العدالة ، فكيف يجوز أنْ يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه علی وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه بصفة مَن لا تُقبَل شهادته وعلی حالة تنفر عن الإستماع إليه والقبول منه .

 

🖋 وأصل هذه القصة – التي نُقلت في بعض تفاسير المسلمين مع الأسف بدون تعليق عليها – مأخوذ من التوراة ، وفيها ما هو أشنع .

 

إذ نُقل أنّه جاء في التوراة ما ملخصه :

 

وكان في وقت المساء أنَّ داود قام عن سريره ، و تمشى علی سطح بيت الملك ، فرأی من علی السطح امرأة تغتسل ، وكانت جميلة جداً ، فأرسل داوود وسأل عنها ، فقيل له : إنّها امرأة أوريّا فأرسل‌ داوود رسلاً وطلبها فدخلت عليه فاضطجع معها ، ثم رجعت إلی بيتها وحبلت المرأة ، فأرسلت و أخبرت داوود أنّها حبلی .

 

وكان أوريّا من قادة جيش داوود ، فكتب داود إلى أمير جيشه ، يأمره بإرسال أوريّا إليه ، ولمّا أتاه ، كتب مكتوباً إلى أمير الجيش‌ وأرسله بيد أوريّا : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة ، وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت ، ففعل به ذلك فقتُل وأخبر داوود بذلك .

 

فلمّا سمعت امرأة أوريّا أنه قد مات ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داوود وضمها إلی بيته ، وصارت له امرأة وولدت له ابناً ، وأمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب ، فأرسل الرب ناثان النبي ، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الى داوود ، وكان مستشاره ايضاً ، فجاء إليه وقال له ، كان رجلان في مدينة واحدة ، أحدهما غني والآخر فقير ، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جداً ، وأمّا الفقير فلم يكن له شي‌ء إلّا نعجة واحدة ، قد ربّاها ، فجاء ضيف إلی الرجل الغني ، فلم يرغب أنْ يأخذ من غنمه ومن بقره ليهييء للضيف الذي جاء إليه ، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيئها لضيفه ، فحمي غضب داود علی الرجل جداً ، وقال لناثان : أقسم بالربّ أنَّ الشخص الذي ارتكب هذا العمل يستحقّ القتل ، وعليه أنْ يردّ النعجة بأربعة أضعاف ، وهنا قال ناثان لداود :

‏إنَّ ذلك الرجل هو أنت ، والرب يعاتبك ، فندم داوود واستغفر وتاب الى ربه ، فتاب عليه وغفر له .

لكن الرب أمرض الصبي سبعة أيام ثم قبضه ، ثم ولدت المرأة بعده لداوود ابنه سليمان .

 

🖋 والجواب عن هذه الخزعبلات :

 

‏1. هل يمكن اتّهام نبي مدحه الباري عزّ وجلّ في قرآنه الكريم بصفات عظيمة ، ودعا نبيّنا الأكرم محمّد ( صلّی اللّه عليه وآله وسلّم ) إلی أنْ يستلهم من سيرته ، هل يمكن اتّهامه بتلك التهم الشنيعة ، يزني ثم يقتل !!

 

‏2. هل تتطابق هذه الأراجيف مع قوله تعالى : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ‌ ) ؟!

 

شخص ينظر إلی شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ، ويلوّث يده بدم الأبرياء ، هل يمكن أنْ يجعله الله سبحانه خليفة له في الأرض ، و يسلّمه منصب القضاء المطلق ؟!

 

‏3. إذا ارتكب شخص بسيط وليس أحد الأنبياء مثل هذا العمل الإجرامي للزنا بزوجة ضابط وفيّ ومؤمن ، ويقتله بمؤامرة دنيئة ، فبماذا سيحكم الناس عليه ؟!

وكيف يثقّون به كنبي أو حتى كحاكم ؟!

‏‏

‏4. الرّوايات و الأحاديث الإسلاميّة كذّبت بشدّة تلك القصّة القبيحة الواردة في التوراة : ومن تلك الأحاديث : ما نُقل عن أمير المؤمنين ( عليه أفضل الصلاة والسّلام ) من أنّه قال :

 

( مَن حدّثكم بحديث داوود علی ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء ) .

‏في حديث آخر عن الإمام الصادق ( عليه أفضل الصلاة والسّلام ) أنّه قال :

 

( إنَّ رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألمْ ينسبوا داوود إلی أنّه اتّبع الطير حتّی نظر إلی امرأة أوريّا فهواها ، وأنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّی قتل ثمّ تزوّج بها ) .

 

وفي رواية عن الإمام الرضا ( عليه أفضل الصلاة والسّلام) أنّه لمّا سُئل عن قصة النبي داوود مع ( أوريّا ) قال :

 

( إنَّ المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبداً ، وأول من أباح الله عز وجل له أنْ يتزوج بامرأة – قُتل بعلها – داود ( عليه السلام ) ، فذلك الذي شق على [ الناس ] من قبل أوريّا ) .

 

🖋 ‏ويُستفاد من هذه الرواية أنَّ هذه القصة كانت لها جذور حقيقيّة بسيطة ، وأنَّ داوود نفّذ ما جاءه من تشريع إلهي ، إلّا أنَّ أعداء الدين من جهة ، والجهلة من جهة اخری ، ومختلقوا القصص الخيالية من جهة ثالثة ، اختلقوا وأضافوا سيقاناً وأغصاناً وأوراقاً لهذه القصّة .

 

ولولا أنَّ هذه القصة قد ذُكرتْ في كتب معروفة ، ولو لم نكن في مقام الردّ لكان من الخطأ ذكرها والتعرّض لها .

‏🖋 ثم أنّ في الآيات المباركات ثمّة دلالات معبّرة ، منها :

 

1. إنَّ كون أمراً ما حقّاً فتلك الحقّانية لا تبرر الوسائل والآليات التي يُتوَصل بها الى ذلك الأمر الحق ، ما لم تكن تلك الآليات مشروعة وحقّة ايضاً .

 

2. يجب في القيادة الحقّة أنْ تتمتع بسعة الصدر ، وتتصف بالصبر مقابل ما يصدر من الآخرين من السوء ، ولا يتوقف كثيراً عند الجزئيات ؛ لكي لا ينشغل عن هدفه الأساس ، ( اصْبِرْ عَلَی مَا يَقُولُونَ ) .

 

3. لا بد من مراجعة التاريخ وسيرة الماضين ، لأخذ العبرة في حركة الواقع ، ( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ) .

 

4. الإستهزاء والإستخفاف بأهل الإيمان لم تزل طريقة يستعملها العدو لإضعاف معنوياتهم .

 

5. دور القدوات مهم جداً في حياة الأمم ، ( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ) ، ولإدراك العدو لأهمية هذا الدور نجده في كل زمان ومكان يعمل على تشويه وإسقاط كل قدوة .

 

6. مصدر القدرة علی الصبر : العبوديّة واللجوء إلی الله عز وجل ، ( عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

 

7. السلطة والقدرة عندما تكون في يد مثل فرعون تكون دافعاً للإستبداد ، ولكنّها حينما تكون بيد عباد الله فستكون مدعاة لمزيد من التواضع والعبودية لله سبحانه ، ( داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

 

8. العبوديّة الحقّة شرط لتلقّي الألطاف الإلهيّة ( عَبْدَنَا … ذَا الأَيْدِ … آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ ) .

 

شهر مبارك عليكم ..

وأرجو ألّا تنسوني بدعائكم .

 

*************

 

مصادر هذه المقالة :

 

1. التفسير المنسوب للقمي ، علي بن ابراهيم ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 2 ، ص 229 ، مطبعة النجف ، 1387 هج .

2. الرازي ، فخر الدين ، ( ت : 604 هج ) ، تفسير الفخر الرازي ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 26 ، ص 184 – 199 ، دار الفكر للطباعة والنشر ، بيروت .

3. السيوطي ، جلال الدين ، ( ت : 911 هج ) ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 5 ، ص 300 – 304 ، دار الفكر ، بيروت .

4. الشيرازي ، الشيخ ناصر مكارم ، ( معاصر ) ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 14 ، ص 305 – 319 ، الأميرة للطباعة والنشر ، بيروت .

5. الصدوق ، محمد بن علي بن الحسين ، ( ت : 381 هج ) ، الأمالي ، ص 153 ، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة ، قم المقدسة .

6. الصدوق ، محمد بن علي بن الحسين ، ( ت : 381 هج ) ، عيون أخبار الرضا ، ج 2 ، ص 171 – 172 ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .

7. الطبرسي أبو علي ، الفضل بن الحسن ، ( ت : 548 هج ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 8 ، 349 – 354 ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .

8. الطباطبائي ، العلامة السيد محمد حسين ، ( ت : 1412 هج ) ، الميزان في تفسير القرآن ، في تفسير الآيات مورد البحث ، ج 17 ، ص 188 – 194 ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة .

9. قرائتي ، الشيخ محسن ، ( معاصر ) ، تفسير النور ، في تفسير الآيات مورد البحث ، دار المؤرخ العربي ، بيروت .

 

*************

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى