نفحات قرآنية (53)..!

بقلم/ الباحث الإسلامي رياض البغدادي 

“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (35) النور

أبدأ بتوضيح المراد من الآية من خاتمتها، فالله تعالى ختم الآية بقوله :” وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” هذا يعني ان ما ذكره الله تعالى في بداية الآية،

هو عبارة عن مثل يشير الى قضايا أوكل أمر بيانها الى النبي صلى الله عليه وآله، كما في الكثير من التشريعات التي قام النبي بتوضيحها وبيان تفاصيلها بالسنة المطهرة الواردة عنه، كمناسك الحج او أحكام الزواج والصلاة، أو أمور تتعلق بالعقيدة كالعدل والمعاد وغير ذلك،

وعندما نبحث في الروايات المروية بشأن هذه الآية، نجد ان هناك احاديث كثيرة يرد في بعضها بيان تفصيلي وأخرى إجمالي، وردت عن النبي صلى الله عليه آله وأهل بيته عليهم السلام بشأن هذه الآية المباركة، ومنها ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد

قال:” رُوِيَ عَنِ اَلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ)

فَقَالَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اَللَّهُ لَنَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَاَلْأَئِمَّةُ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مِنْ دَلاَلاَتِ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ اَلَّتِي يُهْتَدَى بِهَا إِلَى اَلتَّوْحِيدِ وَمَصَالِحِ اَلدِّينِ وَشَرَائِعِ اَلْإِسْلاَمِ وَاَلْفَرَائِضِ وَاَلسُّنَنِ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ”.

نحن لم نسلك هذا الاتجاه الروائي في بيان المراد من ألفاظ هذه الآية المباركة، عن اجتهاد أو تطرف لرأي ما، انما هو لفظ الآية الذي حكم بذلك، فقوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) يشير الى أن الله تعالى أراد ان يبين أمرًا، من خلال تشبيه بدلالة أداة التشبيه حرف الكاف، فيكون بمقدور الإنسان تخيلها والإقرار بها، وإلا فإن نور المشكاة لا يمكن أن تكون كنور الله على الحقيقة.

ومعلوم ان فائدة النور وصفته الذاتية هو اظهاره ما يسقط عليه، فيخرجه من الخفاء الى الظهور، فقوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني أن الله تعالى مظهِر السماوات والأرض، وهذا لا يعني ان الله مظهر صورتها كما في النور الذي يسقط على الأشياء فيظهرها، بل هو مظهرها من العدم الى الوجود،

وهذا المقدار هو المستفاد من قوله الله تعالى (اللَّهُ نُورُ) وإلا فالله تعالى ليس كمثله شيء، وهو جواب لمن درج على تعريف الله تعالى بأنه نور كالصوفية وغيرهم، فهذا خطأ جسيم يسقطنا في التشبيه والعياذ بالله.

واما قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) فهو شرح لطيف لآلية إظهار هذا الوجود، ومروره بمراحل اختارها الله تعالى، فالقضية ليست عبثية، وانما هناك نظام دقيق محكم يوجه الله به ارادته الى تحقيق الغاية من هذا الخلق، وهو رد على من يرى بأن الوجود فيض لا إرادي، بزعمهم ان الله يفيض الوجود منه، لان الخالقية صفة من صفاته كما ان الضوء صفة لازمة للشمس، وهذا خطأ كبير فلا ننكر ان الخالقية صفة له تعالى، لكنه يوجهها بإرادةٍ وعلمٍ وحكمةٍ لا كالشمس التي يفيض عنها الضياء من غير علم ولا حكمة ولا حتى إرادة.

وبعد ذلك قال تبارك وتعالى (مَثَلُ نُورِهِ) أي مثال هذا النور ونموذجه الأرقى هو المشكاة (الذي جاء في الحديث انها محمد صلى الله عليه وآله) ولا يخفى ان النبي هو النافذة التي تمر خلالها شريعة الله تعالى وكتابه الخاتم المبين، الذي سيبقى نوراً تهتدي به البشرية الى طريق سعادتها في الدنيا ونجاتها في الآخرة، واما تركيبة المصباح والزجاجة والشجرة والزيتونة فهي تركيبة رمزية معقدة لا يمكن فصل جزء من أجزائها،

بل هو ترابط عجيب لا يمكن ان تتكامل الشريعة الا بكل جزء من أجزاء هذه التركيبة النورانية، فمحمد هو المشكاة وعلي وذريته الأئمة المعصومون هم مصابيح الهداية وأنوار الجلال، وبهم يستقيم الدين وفق أرادته تعالى،

وهكذا يختم الله الآية المباركة بقولة تعالى “وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.

ليؤكد لنا ان ما ذكره في الآية هو أمثال يراد منها إثارة الفضول لدى المسلمين وصناعة حدث غير اعتيادي، يدفعهم الى أن يهرعوا الى نبيهم يسألونه عن هذه الرموز والألفاظ،

فيفكك لهم النبي ألغاز هذه الآية ليتم الحجة عليهم بواقعة وحدث لا يمكن نسيانه فضلاً عن إنكاره، فسيحرص جميع الصحابة الى حضور هذه الواقعة عند النبي، ليشهدوا فك رموز المشكاة والمصباح والزجاجة والزيتونة، فهذه ألفاظ لم تعتد العرب سماعها،

لذلك فسوف لا يكون اجتماعهم عند النبي اجتماعاً عابراً يمكن أن يمر مرور الكرام على حياة العرب في المدينة، خاصة وهو يتعلق بلغتهم وبلاغتها، الأمر الذي يثيرهم أكثر من أي شيء آخر،

وهكذا وصلت الأخبار فقد ذكر الحافظ الشافعي علي بن محمد المعروف بابن المغازلي في كتاب المناقب ص382 قال: ” أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب إجازة أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن الحسين بن زياد، حدثنا أحمد بن الخليل (ببلخ) حدثني محمد بن أبي محمود، حدثنا يحيى بن أبي معروف،

حدثنا محمد بن سهل البغدادي عن موسى بن القاسم عن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول الله عز وجل: {كمشاةٍ فيها مصباحٌ} قال: المشكاة فاطمة، والمصباح الحسن، والحسين الزجاجة، {كأنها كوكبٌ دريٌّ}.

قال: كانت فاطمة كوكباً درياً من نساء العالمين، {يوقد من شجرةٍ مباركةٍ} الشجرة المباركة إبراهيم، {لا شرقية ولا غربيةٍ} لا يهودية ولا نصرانية، {يكاد زيتها يضيء} قال: يكاد العلم أن ينطق منها، {ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور}.

قال فيها: إمام بعد إمام، {يهدي الله لنوره من يشاء} قال: يهدي الله عز وجل لولايتنا من يشاء”. ومن هذه الأخبار التي ضاقت صدور البعض عن ذكرها ظهرت لنا حقيقة هذه المشكاة، وتلك الزجاجة وذلك المصباح، قال الغزالي “وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر، وقس على هذا الطّور والنار وغيرهما”.

وخلاصة الكلام، معلوم ان أساس الآية وقطبها الذي تدور حوله ألفاظ الآية جميعها هو لفظ (النور)، وهذا اللفظ تم تفسيره بشكل واضح لا لبس فيه في الآية نفسها وبالتحديد في خاتمتها، يقول الله تبارك وتعالى في خاتمة الآية (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).

هذا يعني ان معنى النور في الآية هو الهداية الى طريق العبادة الحقّة، وان المشكاة والمصباح والزجاجة هي ألفاظ تشير الى رموز، قد ورد تأويلها من حديث النبي صلى الله عليه وآله الذي ذكرناه آنفاً وسيأتي في الآية اللاحقة حصر وجود هذه الهداية والفوز بنوالها من خلال بيت أبعد الله عنه الرجس وطهره تطهيرا.

والله العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى