أثر التهجير التعسفي للدعاة في زمن الطغاة..!
بقلم// حسن عبد الهادي العكيلي
مثّل حزب الدعوة الإسلامي، منذ تأسيسه في خمسينيات القرن الماضي، أحد أبرز الحركات الإسلامية المعارضة في العراق.
لكن هذا الدور لم يكن دون ثمن، إذ تعرّض الحزب وأعضاؤه لحملات قمعية شديدة على يد حزب البعث، لا سيما خلال حكم صدام حسين، حيث بلغ الاضطهاد ذروته، متجسدًا في الإعدامات الجماعية، والسجون المظلمة، والتهجير القسري.
لقد كان الحزب يمثل تهديدًا أيديولوجيًا وسياسيًا للنظام البعثي بسبب طابعه الإسلامي الشيعي، خاصة بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي زادت من مخاوف النظام من انتشار المد الإسلامي الثوري داخل العراق.
لم يكن القمع الذي تعرض له حزب الدعوة مجرد رد فعل سياسي عابر، بل كان نتيجة تفاعل عدة عوامل جوهرية، أبرزها:
– التوجه الإسلامي للحزب: منذ تأسيسه، تبنى حزب الدعوة الإسلامي نهجًا فكريًا ودينيًا يعارض الفكر القومي العلماني الذي اعتمده حزب البعث، مما جعله في مواجهة مستمرة مع السلطة. وقد رأت القيادة البعثية في الحزب تهديدًا مباشرًا لعقيدتها السياسية، خاصة مع انتشار أفكاره بين فئات واسعة من المجتمع العراقي، بما في ذلك الطلاب والمثقفين ورجال الدين.
– علاقته بإيران: بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تصاعدت مخاوف النظام البعثي من تأثيرها على الداخل العراقي، خاصة أن حزب الدعوة كان يتقاسم بعض التوجهات الأيديولوجية مع الثورة الإيرانية. وقد اعتُبر الحزب، من قبل النظام، ذراعًا محتملاً لتنفيذ أجندة الثورة الإسلامية داخل العراق، مما أدى إلى تصعيد حملات القمع ضد أعضائه، واتهامهم بالولاء لطهران.
– محاولات الانقلاب: شهدت العلاقة بين حزب الدعوة والنظام البعثي توترات متزايدة، خاصة بعد اتهام الحزب بمحاولات للإطاحة بالحكومة. وكانت أبرز تلك المحاولات حادثة عام 1980، حينما تعرض طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء آنذاك، لمحاولة اغتيال نُسبت إلى الحزب. وقد شكلت هذه الحادثة نقطة تحول خطيرة، حيث رد النظام بحملة قمع شاملة شملت الإعدامات الجماعية، والاعتقالات، والمزيد من عمليات التهجير القسري.
– التعبئة الجماهيرية: كان حزب الدعوة يتمتع بقاعدة شعبية واسعة بين مختلف شرائح المجتمع العراقي، لا سيما بين الطلبة والمثقفين وأوساط الحوزة الدينية. وقد أدرك النظام البعثي خطورة هذه الشعبية، خاصة في ظل قدرته على تحريك الجماهير ضد السلطة. ولذلك، لجأ النظام إلى تنفيذ إجراءات صارمة لتحجيم نفوذ الحزب، شملت القمع المباشر، والمراقبة الأمنية المشددة، وتصفية قادته المؤثرين، بهدف قطع أي إمكانية لامتداد تأثيره في المجتمع.
مارس نظام صدام حسين شتى أنواع القمع الوحشي ضد أعضاء الحزب، وكان من أبرز هذه الأساليب:
– الإعدامات والاعتقالات: كان مجرد الانتماء للحزب أو التعاطف معه كفيلاً بتعريض صاحبه لأشد العقوبات. وشكّلت إعدامات عام 1980، وعلى رأسها إعدام مؤسس الحزب السيد الشهيد محمد باقر الصدر، مثالًا بارزًا على مدى القسوة التي طالت أعضائه.
– التهجير القسري: أجبر آلاف الدعاة وأسرهم على مغادرة العراق، متجهين إلى إيران وسوريا ودول أخرى، حيث واصلوا نشاطهم السياسي في المنفى.
– التضييق على العائلات: لم يقتصر القمع على الأفراد، بل امتد إلى عائلاتهم، حيث مُورست ضدهم سياسات ممنهجة من الاعتقال، والفصل من الوظائف، والمنع من التعليم.
– المراقبة والتجسس : فرض النظام رقابة صارمة على المؤسسات الدينية والمراجع الشيعية، مما أدى إلى تقويض حرية الفكر والمعتقد.
ومع تصاعد وتيرة العنف ضد الحزب، وتحت وطأة الضغط العسكري والسياسي المتزايد، اضطر العديد من أعضائه إلى الفرار خارج البلاد. في هذا السياق، كانت إيران وسوريا من أبرز الوجهات التي لجأ إليها هؤلاء الأعضاء، حيث شكلت كل منهما ملاذًا استراتيجيًا لهم.
إيران كانت الوجهة الأولى للكثير من أعضاء الحزب، خاصة في فترة ما بعد الثورة الإيرانية عام 1979، والتي أسفرت عن تغيرات كبيرة في المشهد السياسي في المنطقة. على الرغم من أن الحزب كان يواجه تهديدات عسكرية داخليًا، فقد وجد في إيران مأوى سياسيًا، خاصةً في ظل توافر الدعم الإيراني له. خصوصا بما يتعلق في الارتباطات الاستراتيجية فالعلاقة بين الحزب وإيران تميزت بمستوى عالٍ من التنسيق في مختلف الجوانب السياسية والعسكرية، وخصوصًا خلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، حيث اعتُبرت هذه الفترة نقطة تحول في تعزيز العلاقات بين الطرفين. إيران لم تكن فقط حاضنة سياسية لأعضاء الحزب، بل أيضًا شريكًا استراتيجيًا لهم في ظل الظروف الصعبة التي مر بها هؤلاء الأعضاء في وقتها.
أما سوريا، فقد كانت بيئة أكثر انفتاحًا سياسيًا بالمقارنة مع إيران، لكنها لم تقدم نفس المستوى من الدعم العسكري والسياسي الذي قدمته إيران. على الرغم من أن النظام السوري كان قد تبنى مواقف مناهضة للأنظمة المعادية للحزب، إلا أن الدعم الذي تلقاه أعضاؤه في سوريا كان أقل شمولاً وتنظيمًا مقارنة بما تلقوه في إيران.
في سوريا، كان الحزب يجد نوعًا من الحماية السياسية واللجوء إلى بعض المناخات السياسية المفتوحة، ولكن كان الدعم المقدم لهم في الغالب أقل انخراطًا على الصعيد العسكري. كانت سوريا تعتبر ملاذًا آمنًا للكثير من أعضاء الحزب الهاربين من العنف، إلا أن الحكومة السورية كانت أقل اهتمامًا بتقديم الدعم المباشر على غرار إيران.
وبسبب محدودية الدعم العسكري في سوريا، خاصة خلال فترة الحرب، بدأ العديد من أعضاء الحزب في البحث عن ملاذات آمنة في أوروبا أو دول أخرى. هذا التوجه كان بسبب اعتقادهم بأن الفرص في سوريا، من حيث الدعم العسكري واللوجستي، كانت قد بدأت بالتضاءل نتيجة للتحديات المحلية والدولية.
ولكن بقت يوريا تشكل نقطة انطلاق إلى أماكن أخرى في أوروبا، حيث توفر بعض البلدان الأوروبية برامج لجوء، وكذلك فرصًا للتسوية السياسية التي قد تكون أكثر استقرارًا على المدى البعيد.
إن التهجير التعسفي والقمع الذي تعرض له حزب الدعوة يعكس صورة قاتمة من الصراع السياسي والفكري في العراق خلال القرن العشرين.
ورغم ذلك، عاد الحزب ليحتل مكانة محورية في المشهد السياسي بعد سقوط نظام صدام عام 2003. لكن تبقى آثار تلك الفترة محفورة في ذاكرة أعضائه ومؤيديه، شاهدةً على مرحلة من القمع السياسي والاستبداد، وتجسد درسًا في مقاومة الطغيان والسعي نحو العدالة والحرية.
*الكاتب
باحث متخصص في الشؤون السياسية والاجتماعية، وخبير في التخطيط الاستراتيجي، أسعى لتحليل القضايا الراهنة وصياغة رؤى مستقبلية مبنية على منهجية علمية واستراتيجية.”