ماذا تعني : فزت وربّ الكعبة؟
بقلم // د. محمد العبادي
لم أجد في التاريخ رجلاً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)قد شغله هم الآخرة كما شغل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولم أجد في التاريخ رجلاً قد تكلّم عن الآخرة وعمل لها كما عمل الإمام علي عليه السلام.
ولم أعثر على زاهد نصح وحذر من الدنيا وعمل بذلك كما عمل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
لقد اشتد عوده، واستوى خلقه على حبّ الله فكثر كلامه عن ربّه وعن الدار الآخرة .
هل رأيتم حاكماً يمتد سلطانه إلى الشرق والغرب، ثم يخصف نعله بيده، ويقول لابن عباس: أنها لا قيمة لها، والله لهي أحبّ إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.
نعم هانت الدنيا على علي عليه السلام؛ حتى أصبحت عنده ( أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها)،و ( أزهد عندي من عفطة عنز).
هل رأيتم حاكماً تقع تحت سلطانه أمصار الأرض، ومائدته منها كسرة خبز يابسه قد وثقها بجوراب أجرَد ؟!.
هل رأيتم حاكماً لم يتسلل إليه وجاهة السلطة وفخرها، ويشتري لنفسه بدراهم معدودة قميصاً أدنى من قميص خادمه؟!.
هل رأيتم حاكماً أو والياً قد دفعه تواضعه، أن يشتري تمراً قد حمله في طرف ردائه، فبادر الناس إلى حمله عنه، وقالوا : يا أمير المؤمنين نحمله عنك، فقال لهم : ربّ العيال أحق بحمله .
هل رأيتم حاكماً أو ملكاً ينفق خزينة الدولة على رعيته من ذوي الفقر والحاجة يومياً، ويكنس بيده بيت المال ؟!
هل رأيتم حاكماً يمشي في الأسواق بلا تميّز ولازهو ولادعاية إعلامية ، وينصح الباعة والمتسوقين، من دون أن يعرفه الناس؟!
هل رأيتم حاكماً أو ملكاً أو أميراً يُعرّف الناس حقوقهم، ويحفظ لهم كرامتهم وينهاهم عن المشي خلفه وهو راكب 🙁 انصرفوا فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي).؟!
أين أنت يا علي حتى ترى ذلك الزهو والزينة والاستعراضيات و…؟!
هل رأيتم حاكماً يعلّم النّاس معالم الطريق إلى الله، ولم يشغله أمر السلطة عن أمر الناس وتثقيفهم وتوجيههم وتأهيلهم، فقد كان يصلي بالناس وينادي فيهم ثلاثاً حتى يسمعه أهل المسجد ، وكانت له خطب كثيرة وأطلق عليها أسماء مثل : التوحيد – الهداية – الملاحم – اللؤلؤة – الغراء – القاصعة و..و..الخ.
هل رأيتم أو سمعتم حاكماً قد عفت نفسه عن الطعام، ويجلس بعد صلاة العصر ليحكم بين الناس في مسجد الكوفة ويفتيهم حتى يغيب قرص الشمس؟!
هل رأيتم حاكماً أو قائداً يصبر على ظلم عامله المتمرد ، ويرسل إليه ( ١٦) كتاباً، ويستأنيه ثم يرسل إليه ثلاثة وفود لعله يتذكر أو يخشى؟!
هل رأيتم حاكماً يداري عدوه ولا يدخل معه في حرب؛ فقد وصل جيش معاوية إلى مشرعة الفرات قبل أن تصل مقدمة جيش الإمام عليه السلام، وحجز عنهم الماء، وأرسل لهم الأمام موفداً عنه ( عبدالله بن بديل الخزاعي) ليسمحوا لهم بأخذ حاجتهم من الماء ، لأنّ العطش قد أدركهم، لكن معاوية وجنوده كانوا يصرون على منعهم، وظنوا أنهم قد أصابوا الفرصة من علي عليه السلام، بعد أن أخذ جيش الإمام عليه السلام يشكوا العطش، وأذن الإمام لأصحابه بإزاحتهم عن الماء، وماهي إلا ساعة من نهار حتى زحزحوهم عن مواضعهم، وشتان ما بين أخلاق معاوية الخاوية، وبين أخلاق علي عليه السلام فقد أذن لهم أن يأخذوا من الماء حاجتهم.!
لم يسكن علي عليه السلام قصر الإمارة، وتبسط مع الناس كالنظير لنظيره، وكان واحداً منهم حتى انقلبت الموازين في زمنه من خوف المحكوم من الحاكم إلى خوف الحاكم من المحكوم، فهل رأيتم حاكماً يخاف ظلم رعيته له: ( لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي ).
كثيرة هي مناقبك ياعلي، وعرفنا لماذا قلت حين ضربك الشقي المغرر به ابن ملجم : ( فزت وربّ الكعبة). نعم فزت يا أمير المؤمنين، لأنّ قلبك لم يتعلق بشيء سوى الله تعالى.. فزت، لأنك عملت بجد في كل فصول حياتك… فزت، لأنّ عملك الكبير أخذ بك إلى العلي الأعلى… فزت، لأنك رزقت الشهادة في أقدس مكان وهو المسجد ، وأعز عمل عبادي وهو الصلاة، واقرب موضع وهو السجود، وأجمل تسبيحة ترنم بها لسانك وروحك: ( سبحان ربي الأعلى وبحمده)، وشاهدت تجليات تلك التسبيحة، ففزت فوزاً عظيماً. فسلام على علي وهو في عليين ، وسلام عليه في الأنبياء والمرسلين و الشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.