وقفة موجزة مع ( الخطبة الشِّقشِقيّة ) في حلقات ] ( 3 )
الحلقة الثالثة :
بقلم // حسن عطوان
11. ( فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ )
– ( فَمُنِيَ النَّاسُ ) : أي أُبتلوا .
– ( لَعَمْرُ اللَّهِ ) : أمير المؤمنين يُقْسِم هنا .
– ( بِخَبْطٍ ) : السير على غير جادة .
– ( وَشِمَاسٍ ) : إباء ظهر الفرس عن الركوب ونفورها ، كناية عن عدم إنتظام وسلاسة العلاقة فيما بين الناس والسلطة .
– ( وَتَلَوُّنٍ ) : التلون : التَّبدُل .
– ( وَاعْتِرَاضٍ ) : الإعتراض : السير على غير خط مستقيم ، كأنْه يسير عرضاً .
يُشَبّه الإمام ( عليه السلام ) عمر بالبعير الجامح ، إذ الخبط هو الحركة من غير استقامة ، والشماس كثرة الاضطراب ، والتلون اختلاف الحال ، والإعتراض مشي الفرس النشيط فى عرض الطريق .
والمعنى : إنَّ تصدي الثاني للخلافة بعد وصية الأول له أدى – فيما أدّى إليه – الى مصائب جمّة ، منها أنَّ الناس صارت الى ضياعٍ وتيْه .
– قد يقول قائل : كيف هذا والدولة الإسلامية في زمن الثاني قد قويتْ وتوسعت ، ونْظْمت بشكل كبير ، وعاش المسلمون في رفاهية في عهده ؟!
وجوابه : إنَّ المقياس عند أمير المؤمنين هو أنَّ السلطة كم نجحت في حفظ دين الناس ودنياهم ، وقدر إلتزام هذه السلطة بشرع الله سبحانه .
12. ( حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِر ) .
– ( الرَّيْبُ ) : الشك .
– ( النَّظَائِر ) : المشابه بعضها لبعضها الآخر .
وهنا يقصد الخمسة الذين اختارهم عمر مع الإمام .
– ( الْأَوَّلِ مِنْهُمْ ) : يقصد أبا بكر .
يتساءل ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) بلوعة :
هل من شكٍّ في أسبقيتي على أولهم – ويشير إلى أبي بكر – حتى آل امري وأنزلني الدهر فصرت أقرن مع خمسة ، سنعرف وصفهم من عمر نفسه بعد أسطر ؟!
ألمٌ كبير أوجع قلب أمير المؤمنين يظهر من بين ثنايا هذه العبارة !
ترى ما قصة هذا الألم الذي أوجع ذلك القلب الكبير الصابر ؟؟
– ملخص القصة :
إنَّ عمر بن الخطاب وهو على فراش الموت سنة ( 23 هجرية ) قد أوصى لستة ، هم :
الإمام علي بن أبي طالب .
عثمان بن عفان .
عبد الرحمن بن عوف .
سعد بن أبي وقاص .
الزبير بن العوام .
طلحة بن عبيد الله .
ليختاروا من بينهم مَن يكون خليفة من بعده ، وألزم الستة وسائر المسلمين القبول بما تقرره أكثرية الستة ، وأمر بضرب عنق كل من خالف رأي الأكثرية .
على أنْ لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام ، وأنْ لا يأتي اليوم الرابع إلّا وقد أختاروا الخليفة .
وأوصى ايضاً : أنّه إذا كان خلاف فكونوا مع المجموعة التي فيها عبد الرحمن .
نقل إبن أبي الحديد : أنَّ عمر قال : ادعوا إليّ أبا طلحة الأنصاري ، فدعوه له فقال : انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملين سيوفكم ، فخذ هؤلاء النفر [ ويقصد الستة ] بإمضاء الامر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم ، فإنْ اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ، وإنْ اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ، وإنْ اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ، فإنْ أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها ، وإنْ مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم .
[ إبن أبي الحديد ، عبد الحميد بن هبة الله ، ( ت : 656 هج ) ، ( معتزلي ) ، نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 187 ، دار إحياء الكتب العربية ]
وقد انتهى الأمر إلى اختيار عثمان بن عفان خليفة ثالثاً للمسلمين .
وكان أمير المؤمنين يعلم مسبقاً بهذه النتيجة .
بل أنَّ عمر نفسه يعرف بها ايضاً ، إذ خطط الوصول الى ذلك بحسب طبيعة التركيبة التي أختارها .
أمّا سبب إختيار عمر لهذه المجموعة :
فبحجة ” إنَّ رسول الله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش : علي ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ” !!
وبعد أنْ اختارهم قال : ادعوهم لي ، فدعوهم ، فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه ،
فقال … أفلا أخبركم عن أنفسكم …
إلى أنْ قال : أمّا أنت يا زبير فوعق لقس [ الوعق : الضجِر المتبرم ، واللقس : مَن لا يستقيم على وجه ]
مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ويوماً شيطان … ” .
ثم أقبل على طلحة – وكان له مبغضاً لأنّه كان قد رفض إختيار أبي بكر لعمر من بعده .
فقال له: أقول أم أسكت .
قال : قل ، فإنّك لا تقول من الخير شيئاً .
قال : … لقد مات رسول الله ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أُنزلتْ آية الحجاب .
ويقصد : أنَّ طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممَن نقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : ما الذي يعنيه حجابهن اليوم ، وسيموت غداً فننكحهن !
ونقل إبن أبي الحديد عن شيخه أنّه قال : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنَّ الرسول قد مات ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه [ المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم إذا كان طويلاً ] ولكن مَن الذي كان يجسر على عمر أنْ يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا !
قال : ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال: إنما أنت صاحب مقنب [ المقنب : جماعة خيل ] من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وأسهم ، وما زهرة [ زهرة : قبيلة سعد بن أبي وقاص ] والخلافة وأمور الناس !
ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف ، فقال : وأمّا أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمَن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الامر !
ثم أقبل على علي عليه السلام ، فقال : لله أنت لولا دعابة فيك !
أم والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .
ثم أقبل على عثمان ، فقال : هيها إليك ! كأنّي بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك ، فحملت بنى أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء …
[ إبن أبي الحديد ، عبد الحميد بن هبة الله ، ( ت : 656 هج ) ، ( معتزلي ) ، نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 185 – 186 ، دار إحياء الكتب العربية ]
والسؤال : إذا كان هذا رأيه فيهم ، فكيف كان رسول الله راضياً عنهم ؟!
أفلمْ يكُن رسول اللّه راضياً عن غير هؤلاء الخمسة ؟؟!
فأين عمار و أبو ذر وسلمان والمقداد وأمثالهم ؟!
من الواضح أنَّ عمر قد أختار هذه الأسماء وبهذه الشروط بعناية عامداً ؛ للوصول الى مبتغاه .
فكأنّه بهذا الإختيار كان مصمماً على صرف الخلافة عن علي ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) ؛ لأنّه كان يعلم أنّه إذا مات بلا وصية فلا يعدو الناس عن عليٍّ ، و إنْ أوصى إلى شخص محدد غيره فلعل ذلك يثير التساؤل أنّه لماذا إستبعده وهو مَن تشرأب إليه الأعناق ؟!
فجعل الأمر شورى ، ولكنّها شورى شكّلية مزيفة ، معروفة النتائج مسبقاً .
يقول الإمام : ( زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ ) :
كلمة ( زَعَمَ ) تفيد التشكيك ، فتشير الى أنَّ الإمام كان يعرف أنَّ الأمر قد دُبّر بليل .
وإلّا فمن حق المنصف أنْ يتساءل :
أنّه ما دام يعرف أنَّ علياً يحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء – كما صرّح هو بنفسه – فلماذا لم يوص له مباشرة ؟!
وإذا كان يُقرّ أنَّ تركيبة الأسماء التي اختارها ستختار عثمان كما قد صرّح في كلامه مع عثمان ، فلماذا جعل الأمر بيد هذه المجموعة وبهذه التركيبة ؟؟
سؤال لمَن يطلب الحقيقة لأخوتنا من السُنّة !!
وعلى كل حال ، فبعد موت عمر اجتمع الستة وتشاوروا فاختلفوا ، وانضم طلحة في الرأي إلى عثمان ، والزبير إلى علي ، وسعد إلى عبد الرحمن .
فأقبل عبد الرحمن على عليٍّ وقال :
أبايعك على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين : أبى بكر وعمر .
فقال الإمام : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهادي .
فعدل عنه إلى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم .
فعاد إلى الإمام ، فأعاد قوله ، فعل ذلك ثلاثاً .
فلمّا رأى أنَّ عليّاً غير راجع عما قاله ، صفق على يد عثمان ، وقال :
السلام عليك يا أمير المؤمنين .
وهذا يكشف بوضوح – فيما يكشف – أنَّ الإمام كان يرى أنَّ الشيخين لم يسيرا بسيرة رسول الله .
وهنا نُقل : إنَّ الإمام قال له :
والله ما فعلتها إلّا لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما [ أي عمر ] من صاحبه [ أي أبي بكر ] ، دقَّ الله بينكما عطر منشِم .
[ منشِم ، بكسر الشين : اسم امرأة كانت بمكة ، عطّارة ، وكانت خزاعة وجرهم إذا
أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم ، فصار مثلاً ] .
قيل : ففسد بعد ذلك ما بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن .
الطّامة الكبرى أنَّ أخوتنا السُنّة يقولون : إنَّ الرسول لم يوص لأحد من بعده ، وترك الأمر شورى بين المسلمين !
وعندما تسألهم إذن لماذا أوصى أبو بكر لعمر ، ولماذا أوصى عمر لستة ؟!
لو كانت نظرية أنَّ الرسول لم يوصِ لأحدٍّ صحيحة ، فلماذا أوصى الأولان ، ولم يتركوا الأمر شورى في الأمّة ، في الوقت الذي يُفترض أنَّ تلك الأمّة قد إزدادت تجربة وخبرة ورشداً !
يقولون لك لأنّهما خافا أنْ يحصل خلاف بين المسلمين بعدهما بشأن ذلك !
وكأنّهم يعتقدون بأنَّ الأول والثاني كانا أكثر حرصاً وغيرة من رسول الله على الإسلام ومصير الرسالة !!
[ له تتمّة إنْ شاء الله ]
عظّم الله أجوركم ..
وأرجو ألّا تنسوني بدعائكم.