خارج السِّرب..!

بقلم _ كوثر العزاوي

{اللهم أَغنِنا عن هِبةِ الوهّابين بهِبتِك، واكْفِنا وحشة القاطِعين بصِلَتك، حتى لا نَرغبُ إلى أحَدٍ مع بَذْلِكَ، ولا نستَوْحشَ مِن أحَدٍ مع فَضلِك..} وأنا أقرأ هذا الدعاء الوارد في زبور آل محمد “الصحيفة السجادية” لإمامنا زين العابدين “عليه السلام” شعرتُ
بما يلامِسُ أرواحنا هذه الأيام، وكيف أصبحنا لانرغبُ بغيره، ولاتستأنِسُ إلّا به، وهو واقع وليس بِدعًا من القول، كلّا وربّي، إنه يعلم مانخفي ومانعلن! فمع مرور الوقت، ترانا أكثر هدوءً واطمئنانًا، كأننا والقدر رفيقان يُسِرُّ بعضنا للآخر سِرًّا يَسكنُ إليه، يجعلهُ يبتسم كلما ادلهَمّ الأفق، نتوشح الصمت رغم آلاف الأحاديث الممكنة، إلّا مايقتضي التكليف، نتفادى كل فرصة للجدل، نتحاشى الخصومة والسجال، غالبًا مانتغاضى عما لايعنينا، ونتجاهل كثيرًا مايؤلمنا، كما لا نعبأ بآراء مَن يخالفونا الرأي، وإن كان الخلاف لايُفسد للودّ قضية. لم نعد نكترث لمَن ينتقِدنا ولو تعدّى حدود الأدب، وكثير ما نتردد في إدلاء النصح، ليس لضعف الحُجة، إنما شعور نكتسبه عامًا بعد عام وألَمًا بعد ألَم، وصدمة بعد أخرى، وصفعة تترك بَصمَتها على صفحة الروح، فقبول النصح توفيق لايدركه إلّا مَن أخلص لله!. وبين الفينة والأخرى، حكايات وأوهام تفاجأنا، وفي ثنايا الروح ألف غصة وغصة. وهكذا دواليك حتى اشتعل الرأس شيبا!! نعم! نحن ندرك بإنّها منعطفات جعلها الله في الطريق اختبارًا لامناص منه، ورغم قساوتها، لكنها علَّمتنا أهمية اتباع سبل السلام والإنتفاع من وصايا المعصومين “عليهم السلام”، التي تلهمنا أهمية القرب من الله تعالى عند السقطة والعثرة. فقد جاء في وصية الإمام الكاظم لهشام،”واعلَم أنَّ المؤمن قليل الكلام كثير العمل والمنافق كثير الكلام قليل العمل” فصرنا نسعى مع الصمت، ونتحاشى الثرثرة، عسى أن نُكتَبَ في العاملين “فمن كَثُرَ كلامهُ كثُرَ خطؤه”. ونستشعر الضرورة لتنقية المسار من الأغيار. وعندما عرفنا إنّ نبذ الذات حبًا من سيماء الأسخياء المربّين، مضينا في عدم التركيز على النفس، فأحببنا القناعة والهدوء، وما إن لبثنا، حتى مرّ بنا مَن يهمس لنا ببعض قناعات، بقصد أو دون قصد. من قبيل: إنّ الأمان والإستقرار أهمّ من الشعور الذي يجعلك منشرحًا متريّثًا دون خليل يسندك، ابتسمنا وأخذنا بالأيدي آملين متأمّلين، ومضينا بحبّ غير آبهين، وبحبل الله مستمسكين. وحينما أجهدَنا الإخلاص، وجدنا الطريق خالية من المخلصين، فاستفقنا غير نادمين، ولُذنا صامتين والبسمة تعلو ثغرنا، فلم يك ذلك منّا تجمّلًا أو تمرّدا، حتى باغتنا الشعور بالغربة، ليس الغربة كوننا وحيدين! إنما هي غربة مبادئ، وأزمة بر ، وندرة إخلاص! ولما اجتاحت عالَمنا الوحشة! لم تكن وحشة أماكن، أو عزلة طريق، إنما وحشة المسير ورفيق المصير! ولمّا عزّ المراد، أدركنا عمق المنطق الحقيقي الذي يجب ان تدور حوله كل المشاعر في رحلة الحياة، إنه إنسجام الأرواح وتوافق الأفكار، وتطابق المبتغى، ومن كل ذلك تسطع قدسية الأحوال وتضمن بقاء الآمال في طريق التكامل المؤدي إلى الله!. لأجل ذلك، صرنا نتجاهل كل شعور دخيل يعبث بسرائرنا، ونجتنب مايعكر صفو بقايا أعمارنا، وهي تمضي بين مدٍّ وجزر. ولعل من الأقدار مايَصلحُ رفيقًا..! ولا غرابة أن نتكامل مع رفقاءَ ليس من بني البشر!، فالأمل رفيق مؤنس، والسَّحَرُ والكتاب والمِسبحة، هم رفقاءَ النور في الديجور! والقلم سمير وجدانك وسفير افكارك، خليل مخلص رهنَ بنانك، وكل اولئك ليسوا من صنف البشر، لكنهم رفقاء من جنس أرقى!، هم مطايا عروج، وسبلُ ارتقاء بين محطات العمر!. فقد يحبّ المرء قدَرَه حدّ الرضا، فيقوده ذلك الى بلوغ المراد، ولو بمقدار ماينسجم ومبتغاه! وعند آخر محطة، ومابين الصخب والسكون، يدرك المرء: أنّ حقيقة وجوده ليس مرهونًا بكثرة مَن حوله، إنما في استشعار معية الله على أيةِ حالٍ يكون فيه، وما الدنيا سوى خطًى كُتبت علينا، ومَن كُتبت عليه خطًى مشاها.

١٦-شوال-١٤٤٦هجري
١٥-نيسان-٢٠٢٥ ميلادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى