سهل نينوى… أرض التنوع والدم المسفوك بين مطرقة الاحتلال وسندان الطمع القومي
بقلم _ ضياء ابو معارج الدراجي
لا يمكن لمن يعرف العراق جيدًا أن يمرَّ على سهل نينوى دون أن ينحني احترامًا لأرضٍ حملت على ترابها أعراقًا وأديانًا وطوائف تعايشت قرونًا بسلام، قبل أن تدوسها أقدام الاحتلال الأمريكي أولًا، ثم تدفنها نار داعش، وتُعاد صناعتها على عجل بسكاكين الطموح الكردي المسنون على مقصلة المادة 140.
سهل نينوى ليس مجرد جغرافيا تقع شرق الموصل، بل هو خلاصة العراق المُركب، تتشابك فيه جذور الكلدان والسريان والآشوريين مع طين الشبك والإيزيديين والعرب والتركمان، كلهم أبناء السهل، وكلهم شهدوا كيف تنقلب الأرض الطيبة إلى ساحة صراع دولي وإقليمي بمجرد أن تسقط بغداد.
جاء الاحتلال الأمريكي ليكسر الدولة ويبعثر مفاتيحها، فكان السهل من أولى المناطق التي حاول كل طرف أن يسرق مفتاحها لنفسه. قوى كردية تمددت أمنياً بذريعة الحماية، وبدأت تلعب على وتر المظلومية التاريخية لتُقنع العالم بأن سهل نينوى جزءٌ من “الحلم الكردي الكبير”، بينما أهل الأرض – لا سيما المسيحيون – كانوا يسألون بصوتٍ خافت: ومن نحن إذًا؟ أتبخرنا في لعبة الخرائط؟
ثم جاء الوحش الأسود، داعش، كأنما ليفرغ السهل من قلوبه. نزوح جماعي للمسيحيين، حرقٌ للكنائس، وتهديمٌ لآثار من عمر الزمن. لم يُبقِ التنظيم شبرًا إلا لوّثه، ولا بيتًا إلا وجعل منه حفرة رعب. وكل ذلك حصل أمام صمت دولي، ومسرحية سياسية طُبخت بليل.
لكن الحكاية لا تنتهي عند الموت، فكل أرضٍ تنزف، لا بد أن يولد من دمها من ينهض. وهنا برزت حركة بابليون، بقيادة الشيخ ريان الكلداني، لتقول: نحن باقون. سلاح في يد مسيحي عراقي شريف، قاتل تحت راية الحشد الشعبي، لا من أجل طائفة، بل من أجل الأرض والكرامة، أعاد الأمن إلى برطلة وبخديدا وتلكيف وغيرها، ورمم ما انكسر في نفوس الناس قبل أن يرمم الجدران.
لم ترق هذه العودة لقوى كانت تراهن على إفراغ السهل من سكانه الأصليين. فبدأت تدخلات إقليم كردستان بشكل مباشر وغير مباشر، مرة باسم “حماية الأقليات”، وأخرى عبر تحريك سياسيين تابعين، وثالثة عبر ضغوطات إدارية ومالية لتركيع البلدات وتغيير هويتها. لكن رغم كل ذلك، ظل السهل واقفًا، برجاله ونسائه وكنائسه ومساجده، يردد: لا شرق الموصل إلا لأهله.
سهل نينوى اليوم ليس كما كان بالأمس. صحيح أن الجراح لم تندمل بعد، والخرائط لا تزال ترتجف على الطاولات، لكن دماء الشهداء ورماد البيوت المحروقة، وحكايات الأمهات العائدات إلى كنائسهن، كل ذلك جعل من السهل رمزا للصمود لا للهزيمة.
وهنا أقولها كما أؤمن بها: من يظن أن سهل نينوى سيكون تابعًا لإقليم أو سلطة غير بغداد، فهو واهم. ومن يظن أن السهل سيُفرغ من المسيحيين ليُسلَّم لطرف طامع، فهو لا يعرف أهل العراق. سيبقى السهل لأهله، وسيبقى اسم ريان الكلداني محفورًا في ذاكرة الأرض، لأنه كان أول من قال “كفى” في زمن كان الكل صامتًا، وكان أول من حمل بندقية ليمنع الضياع حين كانت العيون مشغولة بالصفقات.
هذه ليست حكاية طائفة، بل حكاية وطنٍ في سهل، وسهلٍ صار رمزًا للوطن.