مناورة سياسية أم بداية صفقة كبرى؟ ..السعودية تعرض تسديد 15 مليون دولار من ديون سوريا
كنوز ميديا – متابعة
في ظل مشهد سوري انقلب رأسًا على عقب بسقوط نظام بشار الأسد وصعود “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو محمد الجولاني إلى سدّة الحكم، فجّرت السعودية مفاجأة سياسية جديدة بإعلان استعدادها تسديد 15 مليون دولار من ديون سوريا المستحقة للبنك الدولي، هذه الخطوة، رغم بساطتها الظاهرية، تحمل أبعادًا سياسية عميقة، وتكشف عن تحوّل استراتيجي في سياسة المملكة تجاه سوريا، وربما نحو الشرق الأوسط برمّته.
ما هي خلفية هذا الدين؟ وكيف تراكم؟
الديون المستحقة على سوريا للبنك الدولي تعود إلى حقبة ما قبل اندلاع الأزمة عام 2011، عندما كانت الحكومة السورية تنفذ مشاريع تنموية كبرى بتمويل دولي، وخصوصًا في قطاعات المياه، والكهرباء، والنقل، والتنمية الريفية، حينها، كانت سوريا تُصنّف كدولة ذات دخل متوسط، وكانت تتلقى قروضًا ميسّرة في إطار برامج تنموية طويلة الأجل.
لكن مع اندلاع المظاهرات الشعبية وتحولها إلى نزاع دموي معقّد، توقفت دمشق عن سداد ديونها الخارجية، وخصوصًا للبنك الدولي وصندوق النقد، ومع دخول سوريا قائمة الدول عالية المخاطر، تم تجميد جميع خطوط التمويل، وتوقفت الجهات الدولية عن التعامل المالي الرسمي مع الحكومة السورية.
على مدى 14 عامًا، تراكمت فوائد الدين وغراماته، حتى وصل الرقم الإجمالي إلى ما يزيد على 50 مليون دولار، منها 15 مليونًا مصنّفة كديون قابلة للتحصيل العاجل إذا تم ضمان طرف ثالث.
وهنا تدخل السعودية على الخط.
لماذا تُبادر السعودية في هذا التوقيت تحديدًا؟
السؤال المحوري الذي يشغل المراقبين هو لماذا الآن؟ لماذا تُقدم الرياض على خطوة كهذه في ظل هذا التغيير الجذري في بنية السلطة السورية، وخاصة مع بروز شخصية مثل الجولاني إلى واجهة الحكم، وهو الذي لطالما ارتبط اسمه بالتطرف والمواجهة مع القوى العربية والخليجية؟
إعادة التموضع بعد سقوط الأسد
منذ عام 2023، بدأت السعودية تعيد هندسة استراتيجيتها الإقليمية، وخاصة بعد الانفتاح على إيران، والتفاهمات مع تركيا، ومحاولات التهدئة في اليمن، ومع سقوط الأسد، بدا أن الرياض رأت فرصة نادرة لإعادة التموضع في سوريا، من دون الاصطدام المباشر بالمجتمع الدولي أو التورط في صراعات مسلحة.
سوريا الجديدة، بقيادة الجولاني، تمثل فراغًا استراتيجيًا محفوفًا بالمخاطر، لكنه أيضًا مليء بالفرص، ومن خلال تقديم نفسها كممول رئيسي لإعادة تأهيل سوريا دوليًا (ولو جزئيًا)، تضع السعودية قدمها في مستقبل هذا البلد المنهك.
محاولة إعادة توجيه السلطة الجديدة
من خلال عرض دفع الديون، تريد السعودية إرسال رسالة سياسية للجولاني: يمكننا دعمكم اقتصاديًا، لكن بشروط سياسية واضحة، أي إن المال السعودي ليس مجانيًا، بل هو جزء من حزمة نفوذ تمتد إلى الملفات الأمنية، والسياسية، والإعلامية، وحتى العسكرية لاحقًا.
ما الذي تريده السعودية من “حكومة الجولاني”؟
رغم أن المملكة لا تعترف رسميًا بحكومة “الإنقاذ الوطني” في إدلب أو بأي سلطة يُديرها الجولاني، إلا أن تسديدها لدين سوريا في هذا التوقيت يشير إلى نية غير معلنة للتعامل الواقعي مع الأمر الواقع الجديد، ويمكن تلخيص المطالب السعودية المحتملة في النقاط التالية:
احتواء التيارات المتشددة المعادية للرياض
رغم أن الجولاني سعى خلال السنوات الأخيرة إلى تقديم نفسه كقائد معتدل، إلا أن مخاوف السعودية من التيارات الجهادية في الشمال السوري ما زالت حاضرة، وقد تطلب الرياض من الجولاني تفكيك أو احتواء فصائل متشددة تنشط في مناطق نفوذه، وخصوصًا تلك التي لها ارتباطات مع تنظيم “القاعدة” أو “داعش“.
ضمان أمن الحدود الشمالية مع العراق والأردن
الفراغ الأمني في البادية السورية ومحيط دير الزور يمثل تهديدًا مباشرًا للمصالح السعودية، سواء من حيث تهريب السلاح أو المخدرات أو تحركات الجماعات المسلحة، تريد الرياض ترتيبات ميدانية مباشرة تضمن ضبط هذه المناطق.
الاستثمار في إعادة الإعمار بمقابل سياسي
بمجرد بدء تدفق الأموال إلى سوريا، سواء عبر صندوق النقد أو البنك الدولي، ستكون الشركات السعودية في مقدمة الساعين إلى الاستثمار في البنى التحتية، وقطاع الطاقة، والإعمار السكني، وخاصة في حلب، إدلب، وربما دمشق لاحقًا.
كيف ينظر المجتمع الدولي إلى هذه الخطوة؟
رغم أن السعودية تملك علاقات قوية مع البنك الدولي، إلا أن تحركها نحو تسديد ديون دولة تحكمها سلطة غير معترف بها دوليًا (الجولاني) يُعد سابقة معقدة، وقد يؤدي إلى:
توتر مع واشنطن، التي لا تزال تُدرج هيئة تحرير الشام ضمن قوائم الإرهاب.
تشجيع دول أخرى (مثل قطر أو الإمارات أو تركيا) على الدخول في مفاوضات موازية مع حكومة الجولاني.
إعادة فتح النقاش في مجلس الأمن حول مستقبل سوريا، وشرعية الجهات المسيطرة على الأرض.
لكن في المقابل، قد ترى بعض الدول الغربية أن المبادرة السعودية تُمهّد لتطبيع تدريجي مع “السلطة الجديدة”، إذا أثبتت قدرتها على إدارة البلاد، ومنع الفوضى، والتعاون مع المؤسسات الدولية.
ماذا عن الجولاني؟ كيف سيتعامل مع هذا العرض؟
حتى الآن، لم يصدر أي تعليق رسمي من قبل “هيئة تحرير الشام” أو “حكومة الإنقاذ” حول المبادرة السعودية، لكن مقربين من الهيئة أكدوا أن الجولاني يدرس العرض “بجدية” لأنه:
يمنحه شرعية مالية غير مباشرة.
يفتح له بابًا للتواصل مع المؤسسات الدولية.
يُظهره كزعيم مسؤول يحاول تسوية ملفات الدولة المتراكمة.
إلا أن قبول العرض السعودي سيُجبر الجولاني على تقديم تنازلات سياسية، مثل الانفتاح على حوار إقليمي، وربما السماح بتشكيل حكومة انتقالية موسعة تضم أطرافًا سورية من خارج معسكره العقائدي.
هل نحن أمام إعادة رسم للشرق الأوسط من بوابة سوريا؟
المراقبون يعتبرون أن ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد تغير في السلطة، بل إعادة رسم للتحالفات والمحاور، وخاصة إذا تمكن الجولاني من الحفاظ على موقعه، وتحولت “هيئة تحرير الشام” من حركة جهادية إلى كيان سياسي واقتصادي تفرضه الظروف.
وهنا، قد نكون أمام مشهد يشبه ما جرى مع “طالبان” في أفغانستان، حين تحولت من جماعة مسلحة إلى حكومة أمر واقع تسعى دول عدة، بينها الخليجية، إلى الانفتاح عليها ضمن شروط معينة.
تسديد الدين… خطوة صغيرة نحو صفقة كبرى؟
المبلغ المالي بحد ذاته (15 مليون دولار) ليس ضخمًا إذا ما قورن بحجم الأزمة السورية، لكنه يحمل رمزية سياسية بالغة، إنه أشبه برسالة مشفّرة من الرياض إلى كل الأطراف:“نحن جاهزون للعب دور رئيسي في مستقبل سوريا – لكن بشروطنا، ومع من يتجاوب معنا.”
وفي حال وافق الجولاني على هذه المعادلة، فقد تكون هذه بداية مسار غير مسبوق يعيد تعريف خريطة السلطة في بلاد الشام، ويُطلق مرحلة جديدة من “الدبلوماسية الاقتصادية” الخليجية، على أنقاض الأنظمة القديمة.
السؤال الأهم: هل تنجح هذه الرهانات؟ أم إن سوريا ستظل رهينة الصراع، مهما تغيرت الوجوه؟
الأيام القادمة وحدها ستكشف حجم ما يجري خلف الكواليس. . ع666