بين التصعيد والتفاوض… مفاوضات روما تواصل مسارها بهدوء رغم الصخب

بقلم _ضياء ابو معارج الدراجي 

 

وسط ضجيج التصريحات الرعناء من بعض المسؤولين الأمريكيين والصهاينة، ووسط محاولة مستمرة لنسف أي مسار يفضي إلى تفاهم أو تهدئة، مضت المفاوضات غير المباشرة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأمريكية قُدمًا هذا اليوم، من خلال الوسيط العاقل الشقيق سلطنة عمان، في سفارتها بالعاصمة الإيطالية روما، دون أن تتأثر بهذا الصخب الممنهج ولا بتلك الألفاظ التي يراد منها تحريف البوصلة أو إحراج الوفد الإيراني أو استفزازه لإخراجه عن هدوئه الثوري ومبدئيته المعتادة.

 

لم تتأثر الجولة الجديدة من المفاوضات بأي تهديد لفظي، ولم تخرج عن إطارها المرسوم مسبقًا، بل جاءت إيجابية إلى حد كبير، واقعية، ومحددة تمامًا ضمن جدول أعمال لقاء السبت الماضي، الذي وضع الخطوط العامة لجولات النقاش المقبلة، فتم التوافق على ثلاث نقاط جوهرية تمثل بيت التفاوض الحقيقي وأساس الاتفاق المنتظر، وهي: مستوى التخصيب، الضمانات، ورفع العقوبات.

 

الوفدان الفنيان من الطرفين سيستكملان المفاوضات خلال الأسبوع المقبل، في اجتماعات دقيقة تهدف إلى تفكيك التفاصيل التقنية المعقدة، وتهيئة الأرضية السياسية والاجرائية للقاء المرتقب بين كبير المفاوضين الإيرانيين الدكتور عباس عراقجي، ونظيره الأمريكي السيد ويتكوف، في ثالث لقاء غير مباشر بينهما بإشراف عماني مباشر في سفارة السلطنة في روما يوم السبت القادم إن شاء الله تعالى، هذا اللقاء سيكون مفصليًا، لأن المخرجات الفنية المنتظرة خلال الأسبوع ستحدد مدى التزام الطرف الأمريكي بما تم التفاهم عليه اليوم.

 

فإذا ما التزم الأمريكيون بثوابت اليوم، واحترموا النقاط الثلاث التي تم تثبيتها، فإن الطريق سيكون ممهّدًا لتوقيع وثيقة مهمة ومفصلية بين الجانبين، وثيقة قد لا تكون نهائية، لكنها سترسم ملامح نهاية أزمة طويلة امتدت لعقود، وأرهقت الشعب الإيراني بالعقوبات، وأرّقت الساحة الدولية بملف نووي شائك طالما اختلطت به السياسة بالضغط الاقتصادي والتضليل الإعلامي.

 

ما يجب التذكير به دائمًا أن الجمهورية الإسلامية كانت وستظل ثابتة على مبادئها، لكنها ليست ضد التفاوض حين يُبنى على الاحترام المتبادل والندية الحقيقية، وما حصل اليوم في روما، هو تأكيد جديد أن الحنكة الدبلوماسية قادرة على تطويع أكثر الملفات تعقيدًا حين توجد إرادة صادقة، ووسيط نزيه، ووفد مفاوض مؤمن بقضيته، وواعٍ لكل خيوط اللعبة الإقليمية والدولية.

 

سلطنة عمان كانت كالعادة في مستوى الوساطة، تحفظ التوازن وتُطمئن الطرفين، بينما حافظ الإيرانيون على صبرهم الاستراتيجي، وتمسكوا بذكائهم في إدارة الحوار، رغم محاولات التشويش التي جاءت من واشنطن وتل أبيب في نفس التوقيت، وهي محاولات تدل على قلق واضح من أن تؤتي هذه الجولة ثمارها، لأن هناك أطرافًا لا تعيش إلا في ظل الأزمات، ولا تتنفس إلا من خلال التوترات.

 

إن ما يجري الآن ليس مجرد تفاوض تقني على بنود نووية، بل هو صراع بين رؤيتين: رؤية تُؤمن بأن الشرق يجب أن يقرر مصيره بيده، وأن تكون السيادة الوطنية خطًا أحمر، وبين رؤية أخرى ترى في كل قوة مستقلة تهديدًا ينبغي كسره أو تطويعه، وبين الرؤيتين يدور صراع طويل النفس، لا تحسمه الاجتماعات وحدها، بل المواقف والثبات والقدرة على الاستثمار في الوقت والظرف.

 

السبت القادم قد يكون موعدًا مهمًا في هذا المسار، فإما توقيع أولي على تفاهم مرحلي يفتح الباب لتسوية أكبر، أو عودة إلى المربع الأول في حال تراجعت واشنطن عن التزاماتها، لكن المؤكد أن الوفد الإيراني جاهز لكل السيناريوهات، ومسلّح برؤية واضحة لا تنخدع بالمجاملات ولا تفرّط بالحقوق.

 

وفي الختام، يبقى الميدان السياسي اليوم شاهدًا على أن من يملك النفس الطويل، والقرار السيادي، يستطيع أن ينتصر في الحرب دون أن يُطلق رصاصة، فقط عبر الإصرار والصبر والاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى