حكمة يوسف في إدارة الأزمات : ما الذي ينقص العراق ؟
بقلم _ الخبير بالشأن السياسي والأمني طه حسن الأركوازي
عندما تمتلك الحكومات الإرادة السياسية والشجاعة في أتخاذ القرار ، فإن بإمكانها أن تلعب دوراً محورياً في نهضة البلدان وتحقيق قفزات نوعية في التنمية ، فالحكومات النشطة هي التي تستثمر في البنية التحتية ، والتعليم ، والصحة ، والزراعة ، والصناعة ، والسياحة ، والصناعات النفطية ، وتضع خُططاً واقعية تُترجم الموارد المتاحة إلى منجزات ملموسة ، لكن أكثر ما تحتاجه الحكومات في إدارة الدول ليس الموارد فحسب ، بل القدرة على أتخاذ قرارات جريئة ، والالتزام بمكافحة الفساد ، ونبذ المحُاصصة ، والتخطيط بعيد المدى ، وهي عناصر لا تُشترى ولا تُستورد ، بل تُبنى بالإرادة والتصميم .؟
ولعل قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) تمثل نموذجاً خالداً في حسن الإدارة والتخطيط الاستراتيجي ، فعندما تولى مسؤولية إدارة اقتصاد مصر ، لم يأتِ بموارد إضافية ، بل أحسن توظيف الموارد القديمة ، لكن بعقلية إدارية جديدة ، حيثُ أستثمر سنوات الرخاء في تخزين المحاصيل وتنظيم الاستهلاك ، فأنقذ مصر والمنطقة من المجاعة خلال سنوات الشدة ، ولم تكن معجزته في أستحضار الثروات ، بل في رؤيته الواضحة ، وتدبيره الحكيم ، وحسن إدارته في أستخدام الإمكانيات بشكلها الصحيح .
هذه القصة ليست مجرد موعظة دينية ، بل درس عملي في فن الحكم الرشيد ، يختصر لنا جوهر الإدارة الناجحة ، أن توفر الرؤية والتخطيط السليم يفوق في أهميته حجم الموارد المتاحة ، وفي المقابل ورغم تعاقب الحكومات في العراق ، ورغم ما تملكه البلاد من ثروات نفطية وموقع جغرافي أستراتيجي وكفاءات بشرية ، إلا أن غياب الرؤية وضعف الإدارة وأفتقار السياسات للاستمرارية والجرأة ، جعلت من هذه الحكومات عاجزة عن تحقيق نتائج ملموسة على الأرض ، فالفرص تذهب هدراً ، والموازنات تُهدر بلا أثر ، والمواطن لا يلمس سوى مزيد من الأزمات والتراجع .؟
خذ على سبيل المثال الموازنة العامة الاتحادية للأعوام ( 2023–2025 ) ، التي أُقرت بثلاث سنوات دفعة واحدة وبحجم إنفاق تجاوز 197 تريليون دينار لعام 2023 وحده ، أي حوالي 153 مليار دولار ، ورغم هذه الوفرة لم تنعكس الموازنة على تحسين نوعي في حياة المواطن ، إذ ما زالت أزمة السكن تتفاقم ، حيث يُقدر العجز بأكثر من 3 ملايين وحدة سكنية ، والتعليم يعاني من اكتظاظ المدارس ورداءتها ، في حين تنهار المنظومة الصحية أمام أبسط الأزمات ، أما البنية التحتية فلا تزال متهالكة في معظم المحافظات ، خاصة الجنوبية التي تعاني التلوث وشح المياه وسوء الخدمات .
أما القطاع الزراعي ، فرغم أن العراق يمتلك أراضي خصبة ومياهاً وفيرة نسبياً ، إلا أنه يستورد اليوم أغلب محاصيله الأساسية ، بسبب غياب الدعم ، وأنعدام التخطيط ، وتدهور البُنى التحتية الزراعية ،
والأمر لا يختلف كثيراً في القطاع الصناعي ، الذي كان يُعد من أنشط القطاعات في المنطقة خلال سبعينيات القرن الماضي ، أما اليوم فتعتمد الأسواق العراقية بشكل شبه كلي على المنتجات المستوردة ، وسط غياب أي استراتيجية جدية لإحياء الصناعات الوطنية .
لا نقصد هنا التقليل من بعض الخطوات الإيجابية التي تحققت في فترات معينة ، لكنها تظل جزئية وغير ممنهجة ، وغالباً ما تكون نتائجها آنية سرعان ما تتبخر مع تغيّر الحكومات أو تبدّل المزاج السياسي .
إن الرسالة الجوهرية التي تحملها قصة يوسف (عليه السلام) لنا اليوم هي أن الإدارة الرشيدة قادرة على قلب الموازين حتى في أشد الأزمات ، بينما سوء الإدارة قد يهدر حتى أعظم الفرص .
وما نفتقر إليه اليوم في العراق ليس المال ولا الموارد ، بل نفتقد إلى الرؤية ، والتخطيط ، والإرادة الوطنية الصادقة التي تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الحزبية والفئوية والضيقة ..!