الدكتورة أمل الأسدي وكشف خدع الإبراهيمية الحلقة الثالثة: الإبراهيمية وخدعة التصوف
بقلم _ المفكر الجزائري أ.د نور الدين أبو لحية
من الإشارات المهمة التي ذكرتها الدكتورة أمل، والتي تدل على تعمّقها المعرفي بالواقع والتراث ما ذكرته عن التصوف أو العرفان واستغلال الإبراهيمية لهما في تمييع الدين، والاستحواذ على موارد العقول والعواطف، ثم بعدها على كل الموارد، وأهمية كشف هذه الخدعة، والتلبيسات المرتبطة بها تكمن في عدة نواح، لعل أهمها شعبية الاهتمام بالعرفان والتصوف، وانتشاره بين جماهير المسلمين، ومن الطوائف المختلفة، ولذلك فإنّ تحويله إلى أداة لتمييع الإسلام، وتمرير المشاريع الصهيونية والغربية سينطلي على كل تلك الجماهير، وبسهولة ويسر.
ومنها أن العرفان والتصوف، ومنذ القديم يعد المحل أو العلم أو الفن الذي يتحدث عن معرفة الله ومحبته والتواصل معه، كما يهتم بالسلوك والأخلاق والآداب، ولذلك لقي احتراما وإجلالا كبيرين لدى الكثير، وصار كل من ينتقد أخطاءه متطرفا أو مكفرا أو جافا أو لا علاقة له بتلك المعاني التي يتحدثون عنها.
ومنها سهولة الاختراق، ذلك أن الصوفية يسمحون للكشف والإلهام والذوق وغيرها أن تكون مصادر لهم، وبذلك ما أسهل أن يظهر الأدعياء والكذبة، الذين يستبدلون الوحي الإلهي المعصوم بهذه المصادر المختلطة، ولهذا نرى كبار الصوفية ينكرون هذا، ويدعون إلى عرض كل شيء على القرآن والسنة المطهرة، كما قال الجنيد سيد الصوفية في عصره وكل العصور: (إن النكتة لتقع في قلبي من جهة الكشف فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة)، وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية: (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة.. طِرْ إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)([1])، ورد منكراً على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال: (ترك العبادات المفروضة زندقة، وارتكاب المحظورات معصية، لا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال) ([2])، ومثله الشيخ أبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية، فقد كان يقول: (إِذا عارض كشفُك الصحيح الكتابَ والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إِن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإِلهام) ([3])
وقبل ذلك كله حذر الإمام الصادق عليه السلام من هذه الخدعة وإن كنا لا نرى تعميمها على كل الصوفية، أو على جميع المظاهر الصوفية، إلا أنها تدل على أن هناك من يستغل اسم التصوف ليشوه الدين، ويجعله في خدمة الشياطين.
ولكل هذه الأسباب، ولدقة المسالك المرتبطة بالحديث عن هذه الجوانب ونقدها، خصوصا وأن كبار مجددي الإسلام في العصر الحديث من أمثال الإمام الخميني([7]) يدعون إلى العرفان والتصوف، فإن الدكتورة أمل ـ كانت دقيقة في هذا الجانب ـ حين فرقت بين العرفان الحقيقي الذي جاء به القرآن الكريم، وبين العرفان المدلس الذي هو في حقيقته خدع شيطانية.
وقد قدّمت لذلك بقولها: (في إطار تهديم النص المقدس المعصوم، سيتم الاعتماد علی التصوف والمتصوفة في إعداد زعماء روحيين يقودون التغيير العقدي للناس، ويسافرون ويجوبون البلدان، شارحين، مبسطين، محببين لفكرة السلام والمحبة والأخوة الإنسانية، ووحدة الجذور، وغيرها من المصطلحات التي تخفي تحتها حقيقة المشروع الإبراهيمي، والجدير بالذكر أن للفكر الصوفي وتمظهراته في الواقع قبولا وتقاربا مع الجميع، فهو نقيض الفكر التكفيري المتطرف، ورجال خطه من دعاة السلام والمحبة، ويحتفون بالمقدسات الإسلامية والرموز الإسلامية أيما احتفاء!!)([8])
ثم ذكرت كيف استثمرت الصهيونية من خلفها هذا النوع من العرفان، فقالت: (ولكنّ ذلك لم يرق للصهاينة، فلم يبقوا شيئا إلا وأرادوا سلبه وتشويهه، فهم يريدون خلق تصوف جديد وهو التصوف الإبراهيمي، الذي يستغل الطروحات الصوفية ويوظفها في مشروعهم القائم علی صهر الأديان ودمجها وتحويلها إلی كتلة هلامية، وخلطة هجينة مشوهة، تعجنها يدٌ صهيونية حالمة بدولة استحواذية من الفرات الی النيل!)([9])
ولي تعقيب بسيط على ما ذكرته الدكتورة أمل في هذا، فالصهيونية في حقيقتها مشروع شيطاني، وهو أكبر من أن يكتفي بالفرات أو النيل، أو البحر الأحمر والأبيض.. بل هو مشروع يشمل البشرية جميعا، ولذلك فإن استغلالهم للعرفان في هذا السبيل هو محاولة لصناعة دين جديد يتسم بالميوعة وعدم الانضباط والانفتاح التام على كل شيء.. لأنه يعدـ كل شيء تجليات إلهية، وتردد البشر بين القبض والبسط، وأنهم في النهاية جميعا سيؤولون إلى الجنة محسنهم ومسيئهم، ويستندون في ذلك إلى كشفهم وذوقهم وإلهامهم بعيدا عن القرآن الكريم.
ولهذا نبهت الدكتورة أمل إلى هذا الخطر، فذكرت أن (هذا يخالف مفهوم التصوف ونشأته ومساره، فالتصوف نشأ من زهد علي بن أبي طالب عليه السلام إمام الزاهدين وسيد العابدين ومنذ نزوله الكوفة، ثم أصبح التصوف تيارا إسلاميا يعكس تطور العلاقة الروحية بالله سبحانه وتعالی، والدعوة الی أن تكون عبادة الله تعالی قائمة علی الحب والشوق وليس الخوف من العقاب أو الطمع في الجنة، فأول نشأة للمصطلح كانت في الكوفة، وأول من أُطلق عليه لقب (الصوفي) هو عالم الكيمياء (جابر بن حيان)، وقد ارتبط معنی التصوف بالزهد والتنسك والتقشف والتخشن ولبس الصوف، وهو تدريب النفس علی العبودية والصدق مع الحق وحسن الخُلق مع الخلق ولعل من أجمل تعريفات التصوف تعريف معروف الكرخي إذ قال عنه (الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق)([10])
ثم ذكرت الفرق الكبير بين التصوف الحقيقي، وهذا التصوف المخادع، فقالت: (فالتصوف في موروثنا هو تصوف إسلامي، وهذا لا يعني أننا ننفي وجوده كنزعة إنسانية لدی الكثير من الناس، إنما إذا تحدثنا عن نشأته واتجاهاته وتمظهراته كتيار، فهو إسلامي، وليس كما يريدون إخراجه من الإسلام!)([11])
ثم ذكرت ما قام به دعاة الإبراهيمية من الخدع في هذا الجانب، فقالت: (الابراهيمية والأبواق التي تدعو لها تريد تفريغ التصوف من محتواه، ونزع هويته، ونسبته الی اللادينية والغنوصية، لهذا أيها المتلقي، انتبه الی قضية دعوة بعض الشخصيات الصوفية الغنوصية أو التي تتبنی الفكر الصوفي الإبراهيمي، دعواتهم المستمرة إلی العراق فضلا عن دعمهم إعلاميا في بلدانهم، ودائما ما تقوم هذه الشخصيات بالتحدث عن السلام والتعايش والأخوة، وغالبا ما تأخذ موقفا بالضد من حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، بحجة حقن الدماء والحفاظ علی الأرواح وضرورة التعايش مع الواقع! وكذلك ستلحظ نشاطا واسعا للفرق الصوفية الإبراهيمية ودعما إعلاميا، ودعوات منهم للأخوة والمحبة والدفاع عن حقوق الأقليات وغيرها من الرومانسية الإبراهيمية الموجهة، وارجع بذاكرتك قليلا وقف عند الحملة الإعلامية التي رافقت نشر رواية (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة التركية إليف شفق التي أعلنت فيما بعد أنها شاذة مثلية الجنس)
وما ذكرته يذكرنا باهتمام الأدب العربي الحديث بالصوفية، وخصوصا ممن يتبنون الغنوصية، والحلاج وابن عربي منهم خصوصا، وذلك لأنهم رأوا أن أحسن ما يواجه به الدين الأصيل هو هذه التحريفات، ولهذا نرى الاهتمام الغربي بطروحات عبد الكريم سروش في القبض والبسط والتجليات، وغيرها من الطروحات لمواجهة الإسلام المحمدي الأصيل.