الإيرادات غير النفطية في العراق طفرة رقمية أم سراب تنموي .؟
بقلم / الخبير بالشان السياسي والأمني طه حسن الأركوازي
يُشكل تنويع مصادر الدخل الوطني أحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصادات الريعية ، وعلى رأسها الاقتصاد العراقي الذي يعتمد بشكل مفرط على إيرادات النفط لتمويل الموازنة العامة ، فقد أسهم هذا الاعتماد الأحادي لعقود في تعميق هشاشة البنية الاقتصادية ، وجعل الدولة رهينة للتقلبات السعرية في الأسواق العالمية ، وفي ظل الأزمات المالية المتكررة ، برزت الحاجة الملحّة إلى تفعيل الإيرادات غير النفطية بوصفها ركيزة أساسية لتحقيق الاستدامة المالية والنمو المتوازن .
وتشير البيانات الرسمية والتقارير الحكومية الحديثة إلى ارتفاع ملحوظ في الإيرادات غير النفطية خلال العام 2024 ، وهو ما يُعد تطوراً مهماً من حيث المؤشرات الكمية ، إلا أن هذا الارتفاع يطرح في المقابل تساؤلات جوهرية حول مدى أستثمار هذه الموارد في مسارات تنموية حقيقية ، وأثرها الفعلي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد ، كما يُعيد إلى الواجهة تساؤلاً لطالما طُرح دون إجابة شافية: أين تذهب أموال الدولة، سواء النفطية منها أو غير النفطية .؟
في سعي الحكومة نحو تقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات ، أعلن المستشار المالي للحكومة العراقية (مظهر محمد صالح) ، عن تحقيق قفزة نوعية في مساهمة الإيرادات غير النفطية ، إذ أرتفعت خلال الأشهر التسعة من عام 2024 لتصل إلى أكثر من 12% من إجمالي الموازنة ، مقارنة بنحو 7% فقط في السنوات السابقة ، ويُعزى هذا التحسن إلى جهود الحكومة في تنظيم عمليات التحصيل الجمركي والضريبي ، وإدخال أدوات الأتمتة والرقمنة في التعاملات المالية ، إلى جانب توسيع القاعدة الضريبية ، ووفقاً للبيانات ، فإن هذه الإيرادات تتوزع على قطاعات متعددة ، منها الضرائب المباشرة ، وغير المباشرة ، والرسوم الجمركية ، وإيرادات الموانئ ، والأنشطة الاقتصادية غير النفطية كالنقل ، والاتصالات ، والزراعة ، والصناعات التحويلية ، ويعكس هذا التوسع ، على الورق أتجاهاً واعداً نحو بناء اقتصاد متنوع .
غير أن التحدي الأكبر لا يزال في مدى ترجمة هذه المؤشرات الرقمية إلى نتائج فعلية يشعر بها المواطن ، فرغم هذه الطفرة في التحصيل لا تزال الخدمات العامة في معظم المحافظات تعاني من التردي ولا تزال نسب الفقر والبطالة مرتفعة ، والبنى التحتية متداعية ، مما يثير تساؤلات حول مصير هذه الإيرادات الجديدة .
أولاً / أرقام الخطة الخمسية : توقعات طموحة ومعضلات واقعية .؟
في سياق موازٍ ، أعلنت وزارة التخطيط في خطتها التنموية (2024 – 2028) عن تقديرات تشير إلى بلوغ الإيرادات غير النفطية خلال هذه الفترة ما يزيد على 79 تريليون دينار، منها :
1- 21 تريليون دينار ضرائب مباشرة (مثل ضريبة الدخل على الأفراد والشركات) .
2- 16.8 تريليون دينار ضرائب غير مباشرة (كضرائب المبيعات والرسوم) .
3- 41.3 تريليون دينار من بقية الإيرادات، كإيرادات الدولة من الأملاك العامة ، والغرامات ، ورسوم الجمارك والموانئ والمخالفات .
ووفق هذه الخطة ، فإن مساهمة الإيرادات النفطية في الموازنة ستتراجع من 89.2% عام 2024 إلى 87.4% عام 2028 ، وهو ما يُظهر نية حكومية لتقليل الاعتماد على النفط ، إلا أن تحقيق هذه الأرقام الطموحة يتطلب إصلاحاً جذرياً في بنية الاقتصاد ومؤسسات الدولة ، لا سيما ما يتعلق بمكافحة الفساد المالي والإداري الذي يستنزف الموارد ويعيق أستثمارها .
ثانياً / الواقع على الأرض : فجوة بين الإيرادات والتنمية .؟
رغم الحديث الرسمي المتفائل، لا تزال الموازنة العامة تُستخدم في معظمها لتغطية الإنفاق التشغيلي ، بما في ذلك الرواتب والدعم الحكومي ، دون أن ينعكس ذلك على تنمية مستدامة أو تحسين فعلي في البنية التحتية والخدمات .
ويعاني العراق من ضعف مؤسسات الرقابة المالية، وتضارب الأولويات ، وغياب الخطط الاقتصادية المترابطة ، فعلى سبيل المثال ، رغم تحقيق عشرات التريليونات من الإيرادات غير النفطية منذ عام 2018 وحتى اليوم ، لم تُسجّل نتائج تنموية واضحة في القطاعات المفترض أن تكون مستفيدة ، كالصحة ، والتعليم ، والإسكان ، والصناعة ، وتغيب في المقابل تقارير مفصلة وشفافة تُظهر كيف وأين صُرفت هذه الأموال .
خلاصة وأستنتاجات :
إن الحديث عن “تحسن الإيرادات غير النفطية” لا يجب أن يُقرأ بمعزل عن واقع الإنفاق العام ، ومدى توجيه الموارد نحو الأولويات التنموية الحقيقية ، فالتحدي في العراق ليس فقط تحقيق إيرادات أعلى ، بل الأهم من ذلك هو كيفية إدارتها وتوظيفها بفعالية وعدالة .
إن المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح أدوات الجباية ، بل إصلاح فلسفة الموازنة العامة نفسها ، لتنتقل من كونها أداة إنفاق إلى أداة استثمار في الإنسان والبنى التحتية ، وتفعيل الرقابة المجتمعية والإعلامية لمساءلة الحكومة عن أوجه الصرف .
فما لم تترافق هذه الإيرادات الجديدة مع خطط تنفيذية واضحة ، ومؤشرات أداء قابلة للقياس ، وإرادة سياسية لمحاربة الهدر والفساد ، فإن هذه الأرقام ستبقى محض طفرة رقمية عابرة ، لا تلبث أن تتلاشى في متاهات البيروقراطية ، وتُضاف إلى قائمة الفرص الضائعة في الاقتصاد العراقي …