الهيدرولوجيا العراقية: الخزين، التوزيع، والمخاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم _ الشيخ مجيد العقابي – مركز الفكر للحوار والإصلاح

ليست الجغرافيا وحدها مَن ترسم ملامح الأمن المائي لأي أمة، بل هو التفاعل المعقد بين السياسة، المناخ، التاريخ، والسلوك البشري. وإذا كانت بعض الدول تتحكم بالماء فتوجهه نحو التنمية، فإن العراق منذ عقود يُستنزف ماؤه دون أن يكون هو المتحكم في مصيره الهيدرولوجي. وهذا ما يجعل ملف المياه في العراق قضية وجود لا خيار.

الماء في العراق ليس نابعًا من ذاته، بل هو آتٍ من خلف الحدود، من منبعَين أساسيين: تركيا حيث يبدأ نهر دجلة، وإيران التي تصب فيها روافد وشبكات مائية حيوية، وسوريا التي يمر عبرها الفرات. وبهذا يكون أكثر من 70% من موارد العراق المائية تأتي من خارج أراضيه، وهذه النسبة تجعله في موقع الجغرافيا المستقبلة لا المُنشئة، فيتحول إلى ضحية لأي تقلب أو تحكّم.

أولًا: الخزين المائي ومكامن القلق

تقدَّر حاجة العراق السنوية من المياه بما يزيد على 50 مليار متر مكعب، لكن المتوفر فعليًا بدأ ينخفض تدريجيًا بسبب التغير المناخي، وضعف الأمطار، وسوء إدارة الخزين. تشير تقارير وزارة الموارد المائية إلى أن الخزين الاستراتيجي في السدود الرئيسية مثل سد الموصل، وسامراء، وحديثة، وسد دوكان في إقليم كردستان، يتعرض لهبوط خطير سنة بعد أخرى.

وقد كشفت وثائق وزارة الموارد لسنة 2024 أن العراق دخل فعليًا في مرحلة “العجز المائي”، حيث لا تكفي المياه المتوفرة لتغطية الاحتياجات الزراعية والصناعية والبيئية في آنٍ واحد، وهذا يعني أن القرار الوطني بات مُجبرًا على المفاضلة بين الزراعة أو الشرب أو الكهرباء.

ثانيًا: سوء التوزيع الداخلي

ما يزيد الطين بلّة، أن التوزيع الجغرافي للمياه داخل العراق يعاني من اختلالات واضحة. فمحافظات الجنوب (مثل ذي قار والبصرة) تعاني من ملوحة وندرة، في حين تُهدر كميات كبيرة في محافظات الشمال دون تنظيم دقيق. وقد رُصدت آلاف الحالات من التجاوز على الحصص المائية في المشاريع الزراعية، بل في بعض الأحيان جرى تحويل مجرى أنهار فرعية بالكامل لصالح أطراف متنفذة.

والمشكلة لا تتوقف عند سوء العدالة الجغرافية، بل تشمل غياب الرؤية التخصصية: فقلة وجود كفاءات هيدرولوجية مدربة، وعدم تحديث شبكة السدود والقنوات، وغياب الاستثمار في تقنيات الري الحديث (كالريّ بالتنقيط)، تجعل العراق دولة مائية مهددة رغم غناه التاريخي بالأنهار.

ثالثًا: المخاطر الاستراتيجية

الخطر لا ينبع فقط من شح المياه بل من غياب السياسات الوقائية. فبناء تركيا لسد “إليسو” على نهر دجلة، جفَّف آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وأدى إلى نزوح أكثر من 100,000 مواطن من الريف بسبب انعدام مصدر العيش المائي، بحسب تقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) لعام 2023.

كما أن المياه أصبحت ورقة ضغط سياسي تُستخدم لإذلال أو إخضاع، لا للتعاون والوفاق، بل لتغليب مصلحة القوي على حساب حقوق الشعوب. وهذا الواقع يستدعي رؤية وطنية موحدة تبدأ من الداخل:
•من وقف التجاوزات،
•وتنظيم الاستهلاك،
•وتحديث البنية التحتية،
•وصولًا إلى تحرك سياسي جاد لا يكون فيه العراق الطرف الأضعف دائمًا.

إن من لا يتحكم بمائه لا يتحكم بمصيره. والعراق اليوم يقف أمام اختبار وجودي، فإما أن يبني سيادته المائية من الداخل، أو يتعرض لظمأ متواصل، وضمور حضاري تدريجي. وإننا ندعو إلى التعامل مع الهيدرولوجيا كأمن قومي لا كملف ثانوي في الوزارة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى