كنوز ميديا – متابعة
في عالم متوتر تتلاشى فيه الحدود بين المعلومة والدعاية، وتختلط فيه حرية التعبير بالمصالح السياسية والاقتصادية، وتتراجع فيه الضمانات الديمقراطية، جاء تقرير “مراسلون بلا حدود”، للعام الحالي، ليؤكّد أنّ حرية الصحافة في العالم في أسوأ حالاتها.
في عالم متوتر تتلاشى فيه الحدود بين المعلومة والدعاية، وتختلط فيه حرية التعبير بالمصالح السياسية والاقتصادية، وتتراجع فيه الضمانات الديمقراطية، جاء تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2025 الذي يُعدّ مرآة لواقع الإعلام العالمي ليكشف أنّ معظم أرجاء العالم، تواجه أسوأ أوضاعها على الإطلاق، فمن بين 180 دولة، يعيش أكثر من نصف سكان العالم في دول يصنّف فيها وضع حرية الصحافة على أنه “خطير جداً”، بحسب تصنيف المنظمة لسنة 2025.
الضغوط الاقتصادية… حبل يخنق الكلمة
واللافت في تقرير هذا العام هو الانحدار الحاد للمؤشر الاقتصادي ضمن تقييم حرية الصحافة، وهو ما دفع المنظمة إلى تصنيف الوضع للمرة الأولى بـ”الصعب” على الصعيد العالمي، في ظل تمركز ملكية الإعلام، وضغوط المعلنين، وغياب الدعم العمومي أو تسييسه، إلى جانب هيمنة منصات التكنولوجيا العملاقة، كلّها عوامل أدّت بحسب التقرير إلى تقويض قدرة وسائل الإعلام على الاستمرار.
وفي هذا السياق أشارت آن بوكاندي، مديرة التحرير، في المنظمة إلى أن” إضعاف وسائل الإعلام اقتصادياً يجعلها تنجرف نحو التهافت الجماهيري، ويعرّضها لسيطرة الأوليغارشيات وصنّاع القرار، واستقلالية الصحافة المالية لم تعد ترفاً، بل ضرورة لضمان إعلام موثوق يخدم المصلحة العامّة”.
بدورها، شدّدت أنيا أوسترهاوس، المديرة التنفيذية للمنظمة، على أن “الصحافة المستقلة شوكة في خاصرة المستبدّين… وإذا جفّت الموارد المالية، فمن سيكشف المعلومات المضللة والدعاية الكاذبة؟”.
الولايات المتحدة: الديمقراطية تحت المجهر
ومن بين أبرز المؤشرات المثيرة للقلق، وفق التقرير تراجع ترتيب الولايات المتحدة إلى المرتبة الـ57، متأخّرة عن دول مثل سيراليون، وتُحمِّل المنظمة في هذا السياق إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مسؤولية هذا التدهور، مشيرة إلى أنّ “هجمات يومية” على الإعلام، وخفض التمويل العامّ، أدّيا إلى تفكيك وسائل إعلام عامّة مثل “صوت أميركا”، فيما تسبّبت إجراءات حكومية مثل تجميد مساعدات “يو أس إيد” في انهيار مؤسسات إعلامية، ولا سيما في أوكرانيا، وولادة ما وصفته المنظمة بـ”صحارى المعلومات” داخل الولايات المتحدة نفسها.
واعتبرت آن بوكاندي، مديرة التحرير في المنظمة، أنّ “الوضع لم يكن مشرّفاً أصلاً”، لكنه ازداد سوءاً منذ عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة.
النرويج في الصدارة والصين في آخر الترتيب
أما النرويج فقد واصلت تصدّرها التصنيف العالمي للسنة التاسعة على التوالي، تليها إستونيا وهولندا، فيما حلّت الصين، وكوريا الشمالية، وإريتريا في أدنى الترتيب (من 178 إلى 180). ورغم أن أوروبا لا تزال أكثر المناطق حرية من حيث ممارسة الصحافة، إلا أن مؤشرات التراجع شملت حتى بعض الديمقراطيات المتقدّمة، مثل تركّز ملكية وسائل الإعلام كما في أستراليا وفرنسا، أو الاعتداءات المتزايدة ضد الصحافيين كما في ألمانيا، التي خرجت من قائمة العشر الأوائل للمرة الأولى بسبب بيئة عمل “عدائية” تجاه الصحافيين، ما يعزّز قتامة وضع الصحافة فيها.
تونس.. من الريادة العربية إلى التراجع المقلق
وفي السياق العربي، فقدت تونس مكانتها في السنوات الأخيرة كأول دولة عربية في التصنيف بعدما تراجعت 11 مرتبة دفعة واحدة عن العام الماضي لتستقرّ في المرتبة الـ129. وقد أرجع التقرير هذا التراجع إلى الضغوط السياسية والاقتصادية.
وتونس، التي كانت تُعدّ تجربة ديمقراطية واعدة بعد الثورة، باتت تواجه وضعاً إعلامياً أكثر تشابهاً مع الدول التي تُضيّق على الإعلام وتجرّمه. ويرى التقرير أن هذا التراجع يعكس انحسار الإرادة السياسية في دعم إعلام مستقل، ويشكّل مؤشراً مقلقاً ضمن السياق العربي العامّ.
فلسطين: الإعلام تحت القصف
أما في فلسطين فقد وصفت المنظمة الوضع بأنه “كارثيّ”، بعد أن حلّت في المرتبة الـ163، مشيرة إلى قيام “الجيش” الإسرائيلي بـ”تدمير مكاتب تحرير وقتل نحو 200 صحافي”، في واحدة من أسوأ حصائل استهداف الصحافيين على الإطلاق. وأدى هذا إلى تهجير واسع للصحافيين، وفقدان أدوات العمل المهني، ما يعمّق عزلة الفلسطينيين الإعلامية وسط صمت دولي مريب.
توصيات: نحو بناء إطار اقتصادي جديد للصحافة
واختتمت “مراسلون بلا حدود” تقريرها بالدعوة إلى إعادة بناء النموذج الاقتصادي للعمل الصحافي على أسس شفّافة ومستدامة، وشدّدت على ضرورة دعم وسائل الإعلام من خلال تمويل عامّ مستقل وعادل، وكبح هيمنة الشركات الرقمية الكبرى التي تبتلع حصة الإعلانات وتغذّي التضليل. كما أوصت بإجراءات تضمن التعددية وتمنع تمركز الملكية، وتحمي الصحافة من الابتزاز السياسي والاقتصادي. فالصحافة الحرّة، وفق التقرير، “لا يمكن أن تزدهر في فراغ مالي، بل تحتاج إلى بيئة حاضنة تضمن استقلاليتها، وتحميها من الانهيار والانصياع”.
الصحافة الحرة: ضمانة الديمقراطية
ويمكن القول بأنّ تقرير 2025 بمثابة تذكير صارخ بأنّ حرية الصحافة لم تعد مضمونة حتى في أعرق الديمقراطيات. بل إنها أصبحت مهدّدة من قبل أنظمة استبدادية، وضغوط السوق، وأدوات التكنولوجيا. ففي غياب إعلام حرّ، تُترك الشعوب بلا بوصلة ولا مساءلة، وتصبح الديمقراطية اسماً بلا مضمون. وهذا المشهد، اختزلته آن بوكاندي بقولها “حين تُخنق الصحافة، تُخنق الحقيقة… ومعها يُخنق المستقبل”.
لذلك فإنّ الدفاع عن الإعلام المستقلّ لم يعد قضية مهنية فقط، بل معركة جوهرية من أجل الحقّ في المعرفة، في وقت تعلو فيه أصوات التضليل، وتسود فيه الأكاذيب.ع666