هل يوجد عذاب في القبر؟ قراءة قرآنية في مصير الإنسان بعد الموت

بقلم / بشير ربيع علي الصانع 

منذ قرون، ترسّخ في الوعي الجمعي للمسلمين مفهوم أن الإنسان، ما إن يُوضع في قبره، حتى يُفتح عليه باب من العذاب أو النعيم، وتُبعث فيه الحياة مرة أخرى ليتلقى ضربات “النكير والمنكر”، ويُقعد في لحده ليسأل، ويحاسب، ثم يعذّب أو يُنعَّم حتى يوم القيامة!

 

غير أن المتدبّر في كتاب الله العزيز، يجد أن هذا التصوّر لا يجد له موطئ قدم في آيات القرآن، بل يتناقض معها في جوهر العقيدة، ومعنى الحساب، وتوقيت البعث، ووصف البرزخ.

 

أولًا: الموت نهاية للعمل إلى يوم القيامة

 

قال تعالى:

 

“وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى” [النجم: 39–41]

فالجزاء لا يكون عند الموت، ولا في القبر، بل بعد أن يُرى سعي الإنسان، أي بعد بعثه ووقوفه بين يدي ربه.

 

 

وقال سبحانه:

 

“كل نفس ذائقة الموت، ثم إلينا تُرجعون” [العنكبوت: 57]

ولم يقل: “ثم إلى القبر تُعذّبون”، بل جعل الرجوع النهائي إلى الله، لا إلى مرحلة بينية يتعرض فيها الإنسان لعذاب خاص.

 

 

ثانيًا: البرزخ سكون، لا عذاب ولا نعيم

 

قال الحق جلّ جلاله:

 

“حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحًا فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون” [المؤمنون: 99–100]

فالبرزخ، بحسب هذه الآية المحكمة، هو حائل زمني بين الموت والبعث، لا حياة أخرى، ولا اختبار جديد، ولا حساب، بل سكون حتى يأتي يوم القيامة.

 

 

فأين يُمكن لعذاب القبر أن يقع إذا كانت البرزخية فاصلة صامتة لا وعي فيها ولا عذاب؟

 

ثالثًا: العدل الإلهي لا يقبل العذاب قبل المحاكمة

 

ومما ينبغي التنبه له، أن القول بعذاب القبر يصطدم بمقام عدل الله المطلق، وهو الذي لا يعذّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، ومحاكمته علنًا يوم الحساب، حيث تُعرض الأعمال ويُعطى كلٌّ جزاءه.

 

فأيّ عدل أن يُعذَّب العبد في قبره قبل أن يُسأل أو يُحاسب أو يُدافع عن نفسه؟ هذا طعن في كمال عدل الله الذي قال:

 

“ولا يظلم ربك أحدًا” [الكهف: 49]

“وما ربك بظلام للعبيد” [فصلت: 46]

 

 

إن الذين يستدلّون بقوله تعالى:

 

“النار يُعرضون عليها غدوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب” [غافر: 46]

يظنون أن في الآية دليلاً على وجود عذاب في القبر، غير أن التدبر اللفظي يُسقط هذا الزعم، فالآية تقول “يُعرضون” لا “يُعذَّبون”، كما أن الجملة الفاصلة: “ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب”، تفصل بين زمن العرض وزمن العذاب، وتبيّن أن الإدخال الحقيقي في النار لا يكون إلا بعد قيام الساعة.

 

 

 

رابعًا: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يسمع من في القبور، فكيف يُقال إنه سمعهم يتعذّبون؟

 

أما ما يُروى من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرَّ بقبور وسمع منها صراخ أهلها وهم يُعذَّبون، فذلك حديث يتعارض صراحة مع القرآن، إذ يقول الله له:

 

“وما أنت بمسمع من في القبور” [فاطر: 22]

ويقول أيضًا:

“إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين” [النمل: 80]

 

 

فإذا كان النبي لا يُسمع الموتى، فكيف يُقال إنه سمعهم يصرخون ويتألمون؟!

إن ذلك يتنافى مع النص القرآني، ومع طبيعة الحياة البرزخية التي وصفها الله بأنها سكون وصمت وانتظار.

 

خامسًا: البعث والحساب بعد النفخ في الصور

 

القرآن الكريم لم يربط الحساب إلا بساعة البعث الكبرى، حيث يُنفخ في الصور، ويخرج الناس من قبورهم:

 

“يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجًا” [النبأ: 18]

“ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون” [المؤمنون: 15–16]

“يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصبٍ يوفضون” [المعارج: 43]

 

 

فالخروج من القبور لا يكون إلا يوم القيامة. وأما القول بأن الإنسان “يُعاد إليه وعيه بعد الدفن”، فإنما هو قول لا دليل عليه من القرآن، بل يخالفه.

 

سادسًا: لا حساب قبل قيام الساعة

 

قال تعالى:

 

“ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم” [يونس: 45]

فالناس حين يُبعثون، يظنون أنهم ما لبثوا إلا ساعة! ولو كانوا يُعذَّبون في قبورهم قرونًا، لما غفلوا عن ذلك.

 

 

وقال سبحانه أيضًا:

 

“ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، كذلك كانوا يُؤفكون” [الروم: 55]

وهذه الآية حاسمة، فالذين يُبعثون، يقسمون على أنهم ما لبثوا إلا ساعة، ولو كان هناك عذاب طويل في القبر، لما غفلوا عنه، ولا أنكروا مدّته، بل يدل ذلك على سبات مطلق وانقطاع عن الزمن والشعور.

 

 

“قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون” [يس: 52]

لو كان القبر عذابًا متواصلًا، لما وصفوه بـ”المرقد”، ولا قالوا: “من بعثنا؟”، بل لقالوا: “من أخرجنا من عذابنا؟” لكنهم كانوا نيامًا، في سكونٍ تام.

 

 

“يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا” [النبأ: 40]

هذا هو يوم القيامة، لا يوم القبر. هنا فقط ينكشف الحساب، ويرى الكافر ما قدم، ويتمنى أن يكون ترابًا، لأن المصير أمامه، ولم يكن قد مرّ بعذاب سابق بعد الموت.

 

 

سابعًا: العذاب والنار بعد الحساب لا قبله

 

قال جل شأنه:

 

“وجيءَ يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى” [الفجر: 23]

“كلما أُلقِي فيها فوجٌ سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟” [الملك: 8]

فالنار يُساق إليها الناس بعد قيام الساعة، بعد العرض والحساب، لا فور موتهم.

 

 

ثامنًا: لا واسطة بين الموت والحساب

 

سياق القرآن الكريم يجعل من الموت فاصلة، ومن البعث ابتداءً للحساب، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى حياة ثالثة بينهما:

 

“الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، فيُمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمّى” [الزمر: 42]

 

 

“وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟ بل هم بلقاء ربهم كافرون” [السجدة: 10]

 

خاتمة: القرآن لا يسكت عن قضايا العقيدة

 

القرآن الكريم، الذي فصّل كل شيء، لم يذكر عذاب القبر مطلقًا، ولو كان حقًّا واقعًا، لما أغفله الله في كتابه المبين.

 

فلا عبرة بما ورد في بعض الأخبار التي لا ترقى إلى مستوى الحُجّة، إن عارضها النص القرآني القطعي، خاصة في مسائل ما بعد الموت، وهي من صلب الغيب الذي لا يُؤخذ إلا بيقين.

 

فليعد المؤمنون إلى القرآن، فإنه النور، وبه البيان، وفيه الهُدى، وفيه قوله تعالى:

 

“ونُنزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين” [الإسراء: 82]

وما من شفاء أصدق من شفاء الوهم حين يُمحى بنور اليقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى