الهوية الوطنية والاستقرار المجتمعي
محاضرة في جامعة البيان
بقلم _ د.أمل الأسدي
بدعوةٍ كريمةٍ من جامعة البيان، متمثلة بعميد كلية الفنون الجميلة فيها أ.د ميمون الخالدي، زرتُ الكلية وألقيت فيها محاضرةً تحت عنوان(الهوية الوطنية والاستقرار المجتمعي) وبحضور السيد رئيس الجامعة
أ.د. حيدر طالب الامارة، وأساتذة الجامعة ومجموعة من الطلبة.
انطلقت في محاضرتي من القرآن الكريم وتحديدا من قوله تعالی:(( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۞خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ۞يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ )) سورة الطارق، الآيات:٥-٧
وكذلك قوله تعالی:(( وَالله أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)) سورة نوح: الآية ١٦ ، مبينةً أن الإنسان مجبول علی حب وطنه الذي وُلد فيه وتربی، وعاش والداه فيه وأجداده وأجداد الأجداد، لأنه يحمل ذرات ترابه في داخله.
ثم مررت بتعريفات الوطنية لدی العلماء والمفكرين، فقد ارتبط مفهوم الوطنية بالإيثار والدفاع عن البلد عند (جورج هيجل) حين قال : إن الوطنية تعبر عن المشاعر السياسية لحظة تضحية المرء عن مؤسسة الدولة أما (جان جاك روسو) فقد ذهب إلی ربط الوطنية بالحرية فلا وجود للوطنية في مجتمعٍ مُستعبَد.
أما (ماكيافيلي) فقد عرف الوطنية بشكل نفعي وهو إلزام الشعوب بالتضحيات لأوطانهم، وهذا الرأي يحرف مسار الوطنية من الجانب التفاعلي بين الحقوق والواجبات الى وطنية تفرض الواجبات من دون حقوق.
🔻الوطنية المشوهة في زمن النظام البائد:
لقد اعتمد حزب البعث الفهم الميكافيلي للوطنية، أي الفهم النفعي القائم علی فرض الواجبات الجسيمة علی الفرد(المواطن) من دون الحصول علی حقوقه، أي جعل الوطنية تسير باتجاه أحادي فقط، وياليت كان هذا الاتجاه يصب في مصلحة الوطن، وإنما كان لخدمة البعث وفكره الاستحواذي القومي الطائفي الاقصائي، وعلی ذلك تلاعبوا بكل القيم والمفاهيم وأدلجوها بحسب مصالحهم، لهذا نجد مفردة الوطنية وحب الوطن من أكثر المفاهيم التي تشوهت في زمن النظام البائد، فقد تحولت الی الولاء المطلق للقائد الضرورة وحزبه، فصار لزاما علی الشعب أن يری ما يراه الحزب، ويؤمن بما يؤمن به الحزب، وإلا فالمقابر حاضرة، والمشانق مرفوعة، والسجون مفتوحة الأفواه، لذا ارتبط مفهوم الوطنية في أذهان الناس بالحروب والتجنيد الإلزامي وعقوبات الإعدام في المحاكم الفورية والمحاكم الخاصة، وبناءً علی ذلك عزف الناس عن مصطلح الوطنية وتمظهراته، الوطنية التي ذاقوا الويل تحت رايتها!
لقد جعل النظام الصدامي مفهوم الوطنية مساويا للقومية البعثية، وتغنی بأمجاد الأمة العربية علی حساب أبناء الوطن، وراح يزج شباب العراق في حرب طائفية بالنيابة عن الدول العربية، وبينما ينزف الدم العراقي وتزداد المقابر؛ راحت الدول العربية تبني وتعمر وتقفز في اقتصادها وعمرانها هذا ومازالت المدارس تذم العدو الفارسي وتلعن الفرس المجوس كما يصفه النظام المقبور، الذي جعلها حربا جاهلية قومية طائفية!
🔻هوية وطنية واحدة وهويات أخری( تتعدد ولاتتصادم)
بعد ان سقط البعث وفر مسؤولوه وقياداته، وتنفست الناس الحرية، وفرحت بالتغيير؛ انتظرنا تصحيح المفاهيم المغلوطة التي أشاعتها الماكنة البعيثة، انتظرنا إرساء مفهوم الوطنية بشكل جديد، يرتبط بالأرض التي نشأ فيها الشعب وتربی علی خيراتها، ولايرتبط بالحزب الحاكم الذي سرق ودمر وشرد وقتل..الخ كنا ننتظر إرساء مفهوم الوطنية المرتبط بالإنسان واحترامه لأخيه ومعتقده ووجوده، ولكن ما انتظرناه لم يحدث إذ تبنی الإعلام الرافض للتغيير والخلاص من الحزب الواحد، الإعلام الداخلي المدعوم من الخارج، والإعلام العربي، تبنی منهجا خبيثا، قائما علی تشويه صورة العراق وإظهاره مظهر المنهار، الفقير، المعدوم الأمان.
إن هذا الإعلام المنافق ومن يسير في ركبه زج في الساحة العراقية قضية تصادم الهويات، أي تصادم الهوية العقدية مع الهوية الوطنية، وهذا المنهج وهذا الطرح، طرح طائفي ، يستهدف هوية الغالبية المقموعة، ويستكثر عليهم حريتهم في التعبير عن ذواتهم، تلك الحرية التي كفلها الدستور، ومن هنا نجد الرد علی هولاء والرد علی هذا المنهج فيما قدمه المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن، إذ إنه يری أن الهويات تتعدد ولاتتصادم، فالهويات الفرعية للفرد( المواطن) قد تتعدد بحسب الدين والمعتقد والقومية والتوجه الثقافي، والمذهب الفكري..إلخ لكنها لاتتصادم ولا تناقض الهوية الوطنية، مادام هناك دستور يضمن الحريات، ومادام هناك قانون للدولة يعمل علی تنظيم العلاقة بين الهويات، عبر فرض احترام المواطنين لهوياتهم، يعني أن تحترم الأقليات هوية الأغلبية، وتحترم الأغلبية هوية الأقليات، وهذا الاحترام كفيل بتحقيق التعايش السلمي، وكفيل بتحقيق الاستقرار المجتمي، فمهما تعددت الهويات الفرعية للمواطنين، والهويات المحلية للمجتمع؛ فإنها تجتمع تحت عنوان واحد وهو ” الهوية الوطنية العراقية”.
وخير دليل علی كلامه فتوی الجهاد الكفائي التي أطلقها آية السيد علي السيستاني لتحرير العراق من الهجوم الداعشي الذي أدی إلی سقوط مدن عديدة في شمال العراق وغربه، فقد خدمت الهويةُ العقدية الهوية الوطنية، خدمت العراق من شماله إلی جنوبه، والأروع من ذلك أنه نشأت علی أساسها مؤسسة عسكرية قوية، مؤسسة عابرة للقومية وعابرة للطائفية، ونعني الحشد الشعبي، فتجد فيه الايزيدي والمسيحي والعربي السني إلی جانب أبناء الفتوی(الشيعة) وهذه حال فريدة ورائعة تدل علی قضية عدم تصادم الهويات مادامت تحت عنوان أوسع وهو (العراق).
إن العراق يمتلك المقومات التي تمكنه من تحقيق الاستقرار المجتمعي، فهو يتكئ علی موروثٍ حضاري متفرد، وموروث إسلامي يرتبط بالإمام علي (عليه السلام) الذي قال:( الناس صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق ) ولكن ذلك لايتحقق إلا بقوة المنظومة القانونية، ومع أهمية بث الوعي والتثقيف علی التعايش السلمي واحترام هوية الآخرين وتعرية الوطنية المشوهة التي اتبعها البعث، مع كل هذا إلا أن قوة القانون هي الأهم، فالقانون هو القادر علی إنزال النظريات حيز التطبيق، وهو القادر علی إرساء مفهوم المواطنة والعلاقة التفاعلية بين الحقوق والواجبات، ونستطيع القول: إنه بين قوة القانون والاستقرار المجتمعي علاقة طردية، فكلما ازدادت قوة القانون، ازداد الاستقرار المجتمعي وازداد ثبات الهوية الوطنية،
لهذا وجب علينا جميعا دعم القانون والسعي إلی توحيد الكلمة ونبذ الخطابات الطائفية وفضحها، الخطابات التي تسعی جاهدة إلی إعادة مفهوم الوطنية المشوهة التي انتهجها البعث، الوطنية القائمة علی الإقصاء والحرمان من تحصيل الحقوق المعنوية والمادية، وإثقال المواطن بالواجبات التي تخدم الحزب الواحد.