[ رسالة عالية المضامين من السيد الخميني الى ولده السيد أحمد وبواسطته الى كل العاملين ، جديرة جداً بالتأمل ]
بقلم _ حسن عطوان
وسأنقلها على حلقات :
الأولى :
[ بلسم الروح ]
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة من والدٍ هرمٍ متداعٍ ، أفنى عمره في حفنة من الألفاظ والمفاهيم ، وضيّع حياته في قمقم أنانيّته ، وهو الآن يعدّ أنفاسه الأخيرة نادماً على ماضيه .
إلى ولده الشاب ، المتاحة أمامه فرصة للتفكير كعباد الله الصالحين بتحرير نفسه من قيود التعلّق بالدنيا التي ينصبها إبليس الخبيث فخّاً له .
بنيّ :
ما أسرع كرّ الدنيا وفرّها وإقبالها وإدبارها ، ثم نُسحق جميعاً تحت عجلات الزمن .
بنيّ :
لقد أدركت من تتبّعي ومطالعاتي في أحوال مختلف الشرائح البشرية أنّ الآلام النفسية والروحية التي يُعاني منها أفراد الشريحة المتنفّذة الموسرة ، وما يُخلّفه ضياع الآمال والأماني الكثيرة فيهم ، أشدّ أثراً وأكثر تقريحاً للفؤاد من الآلام التي تُعاني منها سائر الشرائح .
وفي هذا العصر الذي نعيش فيه ، والذي يرزح فيه العالم تحت سطوة القوّتين الكبريين ، لا يعدّ العذاب والألم الذي تُعاني منه الطبقات والشرائح المتوسّطة ، لا بل حتى الفقيرة منها شيئاً يذكر قياساً بما يُعانيه رؤساء تلك الدول الكبرى ، وما تتجرّعه كلّ واحدة منهما من الأخرى من ألوان القلق المضني ، فالتنافس بينهما ليس تنافساً متّزناً معقولاً ، بل تنافس مقضّ ومهلك يقصم ظهر كلٍّ منهما ، وكأنّ كلّاً منهما يقف في مواجهة ذئب مفترس يترصّد به ، فاغراً فمه ومكشّراً عن أنيابه يتحيّن فرصة لافتراسه .
إنّ عذاب التنافس هذا يقضّ مضاجع الناس جميعاً بمختلف فئاتهم ، بدءاً من المتنفّذين الموسرين ونزولاً إلى سائر الطبقات ، إلا أنّه يزداد شدّة وتأثيراً كلّما زاد الثراء والقدرة بنفس النسبة وليس من سبيل إلى نجاة البشرية ، وتحقيق الاطمئنان في القلوب ، والتحرّر من الدنيا وأنواع التعلّق بها ، سوى بالمداومة على ذكر الله تعالى .
إنّ أولئك الساعين إلى تحقيق التفوّق بأيّ ثمن سواء أكان سعيهم ذلك في العلوم – حتى الإلهية منها – أو في القدرة والشهرة والثروة ، إنّما يسعون في زيادة آلامهم ، في حين أنّ المتحرّرين من القيود المادّية ، والذين حفظوا أنفسهم – إلى حدٍّ ما – من الوقوع في شرك إبليس ، يُحبرون في جنّة وسعادة ورحمة حتى في عالمنا الدنيوي هذا .
في عهد رضا خان البهلوي وتحديداً في تلك الأيام التي كانت تُمارس فيها ضغوط شديدة بهدف تغيير زيّ العلماء – وكان العلماء والحوزات العلمية يعيشون الإضطراب والقلق نتيجة هذا الأمر لا أعاد الله مثل تلك الأيام على الحوزات العلمية – صادفتُ شيخاً من المتحرّرين إلى حدٍّ ما من رقٍّ الأغيار يجلس قرب دكّان الخبّاز مشغولاً بأكل قطعة من الخبز الخالي ، وعند التحادث قال :
” أمروني بنزع عمامتي ، فنزعتها ووهبتها لشخصٍ يخيط له منها قميصين ، وها أنذا قد أكلت رغيفي وشبعت ، وإلى الليل : الله كريم ” .
ولدي .. إذا أخبرتك أنّي أُفضِّل الفوز بهذه الحالة على الفوز بجميع مقامات الدنيا فصدِّق ، ولكن هيهات أنْ يكون لي ذلك وأنا الواقع في شراك إبليس والنفس الخبيثة .
بنيّ :
أمّا أنا فلا أمل لي ( يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل ) ، والأمل أنْ توفّق أنت إلى سلوك طريق الصالحين بما لديك من نعمة الشباب وقوّة الإرادة .
ولست أرمي من قولي هذا دفعك إلى أنْ تترك خدمة المجتمع والإعتزال لتكون كَلّاً على خلق الله ، فإنّ هذه صفات الجاهلين المتنسّكين أو الدراويش أصحاب الطرائق [ أي : أصحاب الطرق الصوفية التي اشتهرت بالزهد والتنسُّك ]
ولنا في سيرة الأنبياء العظام ( صلى الله على نبيّنا وعليهم أجمعين ) والأئمة الأطهار عليهم السلام – صفوة العارفين بالله والمتعلّقين بساحته المتحرّرين من كلّ القيود والأغلال – من القيام بكلّ ما أوتوا من قوّة بوجه الحكومات الطاغوتية وفراعنة الزمان ، وما عانوا من الآلام والمتاعب في سبيل تحقيق العدالة في العالم ، وما بذلوا من الجهود ، عبرة ودروس ، فإذا كانت لنا أعينٌ مبصرةٌ وآذان واعية فسيكون شعارنا : ( من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ) .
بنيّ :
إنَّ الميزان في الأعمال هو النوايا التي تستند إليها ، فلا الإعتزال الصوفي دليل على الارتباط بالحقّ ، ولا الدخول في خضم المجتمع وإقامة الحكومة شاهد على الانقطاع عن الحقّ ، فما أكثر ما يكون العابد والزاهد واقعاً في شراك إبليس التي تشتدّ وتتوسّع بما يناسب ذلك العابد ، كالأنانية والغرور والعجب والتكبُّر وإحتقار خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يُبعده عن الحقّ ويجرّه نحو الشرك ، وما أكثر ما يرتقي المتصدّي لشؤون الحكومة فيحظى بمعدن قرب الحقّ ، لما يحمله من دافع إلهي ، كداود وسليمان عليهما السلام ، بل وأفضل منهما وأسمى منزلة ، كالنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخليفته بالحقّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكحضرة المهديّ ( أرواحنا لمقدمه الفداء ) في عصر حكومته العالمية .
فميزان العرفان والحرمان إذن هو الدافع ، وكلّما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة وأكثر تحرُّراً من الحجب ، حتى النورية
منها ، كانت أكثر التصاقاً بمبدأ النور ، وإلى المستوى الذي يصبح فيه الحديث عن الارتباط كفراً أيضاً .
بنيّ :
لا تتنصّل من مسؤوليتك الإنسانية التي هي خدمة الحقّ في صورة خدمة الخلق ، فإنّ مكر الشيطان وكيده في هذا المضمار ليس أقلّ من مكره وكيده بين المسؤولين والمتصدّين للأمور العامة .
ولا تتهالك للحصول على مقام مهما كان – سواء المقام المعنوي أو المادّي – متذرّعاً بالرغبة في الإستزادة من المعارف الإلهية ، أو خدمة عباد الله ، فإنّ مجرد الاهتمام بذلك من الشيطان ، فما بالك ببذل الجهود للوصول إليه !
استمع إلى الموعظة الإلهية الفريدة التي يعظنا بها الله ، وأرهف لها سمع القلب والروح ، ثم عِها تماماً وسر في خطّها .
يقول تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَ فُرَادَى ﴾ .
فالميزان في بدء الحركة إنّما هو في كونها ” قياماً لله ” [ أي : خالصة لوجهه ] سواء في الأعمال الشخصية والفردية أو في الفعاليات الاجتماعية .
فاسعَ أنْ تكون موفّقاً في هذه الخطوة الأولى ، فإنّ ذلك في أيّام الشباب أسهل وإمكانية التوفيق فيه أكثر .
وإياك أنْ يفاجئك الهرم مثل أبيك وأنت إمّا مراوح في مكانك أو متراجع القهقرى ، والأمر محتاج من أجل تفاديه إلى المراقبة والمحاسبة .
إذا سعى الإنسان مدفوعاً بدوافع إلهية إلى ملك الجن والإنس ، بل إذا حصل عليه ، فسيبقى عارفاً بالله وزاهداً في الدنيا ، أمّا إذا كان الإنسان مدفوعاً بدوافع نفسانية وشيطانية فان كلّ ما يناله – حتى وإنْ كان مجرد مسبحة – سوف يبعده عن الله تعالى بقدر سوء تلك الدوافع .
****************
*نفحات ملكوتية ، قبس من وصايا الإمام الخميني المعنوية والسلوكية ، رسالة بعنوا
ن : ( بلسم الروح ) ، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة ، الناشر : جمعية المعارف الإسلامية الثقافية ، ط 1 ، 1335 هج .
*************
[ لها تتمّة ]