إضاءات حول دعاء كميل – الإضاءة الثالثة عشرة
﴿ اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم _ الشيخ مجيد العقابي
في هذه الفقرة الرفيعة من دعاء كميل، يدخل العبدُ باب التوسل من أوسع معانيه: لا فقط بطلب المغفرة، بل بطلب ستر الكرامة، وصون الحجاب المعنوي، وسلامة العلاقة بين العبد وربه.
العِصم في اللغة هي: الستائر والحُجب التي تحفظ الإنسان من السقوط أو الفضيحة أو الانهيار، ومنه قولهم “فلان عُصِم عن الخطأ” أي وُقي، وقيل: العصمة هي “الرباط الذي يحفظ ما في داخله”.
فـ الذنوب التي تهتك العصم، هي الذنوب التي تمزق هذا الغطاء الستراني بين العبد وربّه، وتُسقط الهيبة، وتفضح القلب أمام الله والملائكة، وقد تخرق الحياء، وتزيل المهابة، وتمس كرامة الإنسان الروحية.
القرآن الكريم ميّز بين الذنوب؛ فجعل منها ما يُهلك، ومنها ما يفضح، ومنها ما يُغفر إذا أُتبع بتوبة صادقة.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا…} (التحريم: 8)،
وقال:
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114)،
لكن حين يقول الإمام: “الذنوب التي تهتك العصم”، فهو لا يشير إلى مجرد الخطأ، بل إلى الذنب الذي ينزع الحياء بين العبد وربّه، كأنما يسقط الحجاب، وتُكشَف السرائر.
قال الإمام الصادق عليه السلام:
“إذا أذنب العبد ذنبًا، نُكِتَ في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب صُقِل، وإن عاد زادت، حتى يغلب السواد على قلبه، فذلك الرَّين”
(الكافي، ج2، باب الذنوب).
فالذنوب ليست مجرد أرقام تُسجّل، بل هي هتك لحُرمات الله، وكشفٌ لعصمته التي أودعها فينا ستراً وتكريماً.
ومنها:
الكذب، فهو أول ما يهتك حرمة اللسان، ويكشف ضعف الضمير.
الغيبة، فهي هتك لستر أخيك المسلم.
الفجور بالخصومة، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
“من خاصم فَجَر، ومن فَجَر هتك الله ستره” (الخصال للصدوق).
الاستخفاف بالذنوب، وهو من أعظم المهتكات؛ أن يذنب العبد ولا يبالي.
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
“أشد الذنوب ما استهان به صاحبه” (نهج البلاغة، الحكمة 349).
في المقام العرفاني، العصمة ليست فقط عصمة تشريعية، بل هي مرتبة من الطهر الذاتي. فكل ذنب يُرتكب يهتك ستر النور، ويفتح للظلمة بابًا إلى القلب. ولهذا كان العارفون يخافون من الذنوب الصغيرة، لا لهوْل أثرها في الدنيا، بل لهوْل ما تفعله في الأرواح.
سُئل الإمام زين العابدين عليه السلام في بعض أدعيته:
“اللهم اجعلني أخافك كأني أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تُشْقِني بمعصيتك، وخرق سترك عني”
(الصحيفة السجادية، دعاء رقم 5).
العِصمة في أصلها هي صلة الأمان بين العبد وربّه. فإذا ذنَب العبد وتمادى، تمزّقت هذه الصلة، فانقطع الوجدان عن الهدى. وهذا المعنى يفسّر لنا لماذا الذنوب تهتك العصم: لأنها تقطع الحياء من الله، وتزرع الجرأة، وتعتّم البصيرة.
وقد قال احد العلماء في شرح دعاء كميل:
“الذنوب التي تهتك العصم هي التي تمنع العبد من التوبة، لأنّها تهتك حياءه، حتى إذا عرَف الخطأ، استثقل الرجوع.”
حين يقول الإمام علي عليه السلام:
“اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم”،
فهو لا يطلب مغفرة رقم في دفتر السيئات، بل يصرخ خوفًا من أن يهتك الله ستره عن عبده، فينكشف للملائكة والخلق والزمان. فالمغفرة هنا سترٌ جديدٌ من الله لعبدٍ فرّط بما ستره الله عليه أول مرة.
اللهم لا تهتك عنّا ستورك، ولا تنزع عن قلوبنا حياءك، ولا تفضحنا بما نعلمه عن أنفسنا، ولا بما غاب عنّا، إنك أنت الستّار الغفّار الرحيم.
لا تنسوني من الدعاء في ليلة الجمعة أثناء دعاء كميل،
أسأل الله أن لا يهتك لي ولكم سترًا، ولا يقطع عنّا رحمته.
الشيخ مجيد العقابي
الخميس، 1446 هـ
2025/5/8