كثرة المعزّين… واستعراض المواساة!

سلسلة: كثرة بلا أثر. (٥)

بقلم _ الشيخ مجيد العقابي

لم يكن العزاء في العراق طقسًا اجتماعيًا يُؤدى، بل كان موقفًا إنسانيًا يُعاش، لحظة تضامن صادق، تذوب فيها المسافات بين الناس،يشعرهم بأن مصابهم لا يمسهم لوحدهم بل هناك من يعيشه معهم قريبا كان او غريبا.
لكن في زمننا هذا تغيّرت الوجوه… وغابت القلوب.
كثُر الحاضرون… وقلّ المُواسون.
ازدحم المجلس… لكن خفّ الحزن.
وتحوّلت المواساة من شعور إلى صورة، ومن دعاء إلى منشور، ومن دمعة إلى “تأدية واجب”.

اليوم تدخل كثيرًا من المجالس، فتشعر أنك أمام مشهد اجتماعي أكثر منه مأتماً:
ضحكات، ثياب فاخرة، كاميرات.
صور تُنشر من داخل المجلس بعبارة: “أداء واجب عزاء”.
وجوه تبحث عن الظهور، لا عن مواساة قلب منكسر.
وآخرون يمرّون على أكثر من مجلس في اليوم الواحد، لا حبًا بالموتى، بل طمعًا في أن يُقال: “فلان حضر جميع الفواتح.”
بل باتت الفاتحة عند البعض فرصةً للاقتراب من وجهاء العشائر، أو مرشحي الانتخابات، أو أصحاب النفوذ.
وأصبح التجاهل لبيت فقير، أو عزاء بسيط، من معايير “الذوق الاجتماعي”.
هل سمعنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوصانا بأن نطعم المعزّين؟حتى بات المجلس يكلف صاحب المصيبة مئات الملايين من أجل العرف والمظاهر لا يكاد ينتفع منه حتى الميت شيئا!
رغم ان النصوص تأمر بإطعام أهل المصاب! وهناك طبقة من المسلمين وفي بعض محافظات العراق الحبيبة مازالوا يقيمون هذه السنة الشريفة.
لكن واقعنا معكوس في محافظات اخرى :
أهل المصيبة يخدمون، ويُنفقون، ويتكلفون ما لا يملكون، في حين يجلس القادم يتحدث عن جودة الشاي، أو ترتيب الكراسي او يبحث عن نقص للحديث عنه .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
“اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم.”
فأين نحن من هذا الحديث؟
أين عقولنا التي قلبت المفاهيم حتى صار الحزن يُستغل، والمصيبة يُتاجَر بها، والعزاء يُعرض على صفحات التواصل كما يُعرض العيد؟

قليل من يعود بعد العزاء ليسأل:
هل نمتم؟ هل أكلتم؟ هل احتجتم شيئًا؟
وقليل من يقرأ عن الميت، أو يُهدي له ثواب عمل، أو حتى يذكره بدعوة في جوف الليل.
لكن الكل يُهرع إلى كتابة منشور: “نعزّي أنفسنا وأهل الفقيد…”، ثم يمضي وكأن شيئًا لم يكن.

بعض من يُقيمون الفواتح اليوم، لا يهمهم الميت، بل “من حضر، ومن قال، ومن كتب، ومن جلس”.
الفاتحة تحوّلت إلى منبر للتفاخر، ومنصة للظهور، ومجال للعلاقات العامّة.
وتسمع من يقول عن أحدهم: “ما عنده حظ، ما إجا أحد لعزاه!”
كأن عدد الكراسي هو معيار الرحمة، لا صدق الدمعة.

كم من مجلس عزاء، يُغتاب فيه الميت، أو يتحدث فيه الناس عن الدنيا، أو يسرد أحدهم نكتة، أو يتعامل معه الناس كاستراحة مؤقتة بين العمل والمناسبات!
ثم يُقال: “ما شاء الله، عزاء عامر!”
عامرٌ بمن؟
بالمجاملات؟ بالصور؟ بالضحك؟
أين الأجر؟ أين الدموع؟ أين التفكّر في الموت؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
“كفى بالموت واعظًا.”
لكن من حضر ولم يعتبر، فقد أضاع موته قبل أن يموت.

قبل أن ترفع بصرك عن صورة الفقيد،
تأمّل مجلسًا قد تُنصب لك يومًا،
وكرسيًا قد يُكتب عليه اسمك،
وقلب أمٍّ، أو زوجة، أو ابن، قد ينتظر من يواسيه.
هل حضرت اليوم لتتذكر ربك… أم لتُثبت حضورك؟
هل جلست لتواسـي أهل المصيبة… أم لتُصوَّر؟
هل خرجت وقد خفّفت عنهم، أم زدت من وجعهم بتصرفاتك الباردة؟

فالمجلس الذي لا يعيدك إلى الله…
هو عليك لا لك.
والموقف الذي لا يُوقظك من غفلتك…
قد يكون آخر حضورك في الحياة.
فاعتبروا يا أولي الأبصار.

الشيخ مجيد العقابي
مركز الفكر للحوار والإصلاح
10-05-2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى