كثرة المدافعين عن القيم… وقلّة من يطبّقها

سلسلة: كثرة بلا أثر. (٦)

بقلم _ الشيخ مجيد العقابي

ليس أشدّ على القيم من أولئك الذين يرفعون رايتها وهم أول من يدوسها تحت أقدام المصلحة.
فالكارثة في مجتمعاتنا لم تأتِ من قلّة الحديث عن الأخلاق، بل من وفرة الكلام عنها دون التزام، حتى باتت المبادئ تُستهلك كما تُستهلك الشعارات السياسية، وتُتداول كما تُتداول العملات، لا كما تُحمَل كأمانات.

إن جوهر القيم ليس في أن تُتلى أو تُكتب، بل أن تُتجسّد.
والتجسيد لا يتحقق بالخطابة، بل بالسلوك، ولا بالانتقاء الظرفي، بل بالثبات أمام الفتنة والتكلفة.
فما أكثر من يتحدث عن النزاهة وهو يساوم عند أول عقد،
وما أكثر من ينظّر للصدق وهو يغض الطرف عن الكذب حين يصبّ في صالحه،
وما أكثر من يكتب عن احترام الإنسان وهو لا يملك شجاعة الإنصاف حين يختلف مع الآخر في الدين أو المذهب أو الطبقة أو التوجّه.

الإنسان الذي يدافع عن القيم بينما يخونها في تفاصيله اليومية، لا يؤذي نفسه وحدها، بل يضرب بجذور القيم نفسها، لأنه يصنع فجوة بين المبدأ وتجربته الواقعية، فينتج بذلك ما هو أخطر من الجهل: النفاق الأخلاقي.
والمجتمعات لا تنهار فقط حين يُفقد الحق، بل حين يتحول إلى لافتة في يد من لا يؤمن به.
وهنا تتداخل الأخلاق مع الفلسفة السياسية والاجتماعية:
فإذا كانت القيم تُطرَح في كل خطاب عام، وتُدرَّس في كل منبر تربوي، لكنها لا تُترجم في سلوك السلطة، ولا في أمانة التجار، ولا في حياد المثقف، ولا في صدق المتدين،
فهذا يعني أن المجتمع يُنتج أنظمة أخلاقية لفظية، لا عقلية ولا وجدانية.

لقد وضع القرآن ميزانًا واضحًا حين قال:
“كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” [الصف: 3] فالمقت ليس على الخطأ، بل على التناقض،
ولا على الضعف، بل على الادعاء الكاذب بالقوة.
فالذي يعصي وهو صامت أهون من الذي يعصي وهو يعلّم الناس الطاعة.
ومن هنا نفهم التحذير العميق في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام):
“إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل.”
فالهوى يلبس ثوب الحكمة، وطول الأمل يُبرر التراخي، ويخلق طبقة تتحدث عن الخير ولا تجرّب كلفته.

في التوجهات التي تُستَعمل فيها القيم للتسويق، وتُستَحضر عند الحاجة، وتُستبعَد عند الحرج، يصبح المدافع عن الأخلاق مجرد واجهة تُستغل لتغطية التناقض الجماعي، لا منارة تنير طريق التغيير.
والأخطر من ذلك أن الأجيال الصاعدة تفقد ثقتها بالمبدأ ذاته، لأنها لا ترى له صورة حية، ولا تعرف له من يُجسّده، فتظن أن الصدق مستحيل، والنزاهة سذاجة، والوفاء رفاهية، والحياء ضعف، والعفو انهزام.
هنا، تقع الفلسفة الأخلاقية في امتحانها الأصعب:
كيف نحافظ على صلاح القيم، في بيئة يفسد فيها المدافعون عنها؟
وكيف نُبقي على الإيمان بالأخلاق، حين تصبح محاطة بالمجاملات والنفاق؟
الجواب لا يكون بزيادة الخطاب، بل بإحياء النماذج الصامتة، التي لا تتحدث كثيرًا، لكنها تمشي بثبات على جمر الالتزام،
تُجاهد نفسها، وتصمت عند المزايدة، وتخجل من أن تقول ما لا تعيشه.
في زمن التشويش، لا نحتاج لمن يكتب عن النور،
بل لمن يحمل السراج… وإن احترقت يده.

الشيخ مجيد العقابي
مركز الفكر للحوار والإصلاح
11-05-2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى