كنوز ميديا _ ثقافة وفن
ارتبط مفهوم المونودراما بوجود لبس في تَعرف ماهية المفهوم، إذ إن المسرحية المونودرامية تختصر ما يسمى بالعقول العديدة في إنتاج المسرحية إلى عقل واحد أو عقلين، إذ يعمد المسرحيون إلى تقديم مسرحيات مونودرامية يكتبها ويخرجها، بل وحتى يقوم بتمثيل دورها الوحيد ويضع مؤثراتها الصوتية والضوئية ويصمم ديكورها وأزياءها شخص واحد، فالمسرحية المونودرامية قائمة على حكاية تجري أحداثها في زمن ماضٍ يتم سرده سرداً متواصلاً على الخشبة من خلال مؤدي واحد، ولا بدّ لهذا الممثل من أن يتحدث في جهاز الهاتف، كما أن صوت رنين جرس باب المنزل بات من البديهيات في هذا العرض، والممثل بدوره يُمثل حتماً، ويبدو عالم العزلة والاغتراب هوَ العالم الفعلي للشخصيات المونودرامية.
لقد أورد العديد من الباحثين والمُختصّين تعريفات للمونودراما، فهي توصف بأنّها “دراما الممثل الواحد” و “المسرحية ذات الشخصية الواحدة” ومنهم من خَلط بين كلا التعريفين السابقين انطلاقاً من أن المُصطلح يتكون كما هو معروف من مفردتين هما Mono و Drama لكن الناقد والفنان الأمريكي “لويس كاترون” في كتابه “الابداع الفكري.. دليل المونودراما للكُتاب والمُمثلين والمُخرجين” ترجمة محمد رفعت يونس والصادر عام 2025 ضمن إصدارات مهرجان الفُجيرة الدولي للمونودراما يُطلق على النوع المسرحي الفردي (اسم “المونودراما Monodrama”. لأن هذا النوع مرن جداً لدرجة أنه يُطلق عليه أيضاً اسم المونولوج Monologue وأحياناً يتبعه وصف درامي أو مسرحي، أو يطلق عليه المسرحية الفردية Solo Play أو عرض الشخص الواحد و One Person Show في سياق الفودفيل عندما كان الدور يعني فعلاً خاصاً وفردياً قد تسمع الممثلين القدامى يسمونه الدور الفردي Solo Turn)، وتساوقاً مع هذا المفهوم، سنُحايث نقدياً عرض (وصية مريم) الذي قُدمَ مؤخراً ضمن عروض مهرجان الفُجيرة الدولي للمونودراما بدورتهِ الـ 11 وهو من إنتاج فرق تأليف جمال آدم، إخراج د. عجاج سليم، أداء محمد حداقي، يتحدث العرض عن شخصية مُعلم اللغة العربية “جليدان” الذي يستعيد تفاصيل يومياتهِ التي عاشها سابقاً (المدرسة/ الصف/ الحارة/ المدينة/ الوطن) ضمن عوالم الذاكرة القريبة لهُ، عبرَ السرد المسرحي عندما يسرد حكايا تلكَ الطفلة الصغيرة “مريم” التي قتلها العسكر في مجاهل موت عابر مُستفيضاً بالحديث بسخرية وبكائيَّة ضمن فضاءات مُتَشَكَلّة من عملية “تقشير” للذكريات (كما يُسميها الألماني “غونتر كراس” في كتابهِ تقشير البصلة) وبأجواء مُتخمةً بالكوميديا السوداء عبرَ إثارة الأسئلة السائلة.
فعلى مدى أكثر من 40 دقيقة استطاعت فُرجة (وصية مريم) أن تؤكد على الحضور المُتميز للفنان “محمد حداقي” معلم العربية الذي انطلق من حادثة موت تلميذتهِ “مريم” من قبل سيارة عسكرية مُفتتحاً لسرد مآلاتهِ الإنسانية المُكتنزة ألماً وشجناً بسبب ويلات الحرب السورية الداخلية ومآسي اللجوء للإنسان في مُختلف منافي الأرض، نحنُ إزاء عرض مُكتنز بجميع المحمولات الفكرية والإنسانية التي تُدين الحرب وويلاتها، إذ عَمدَ مُخرج العرض عجاج سليم الى تأثيث فضاء العرض بسرديات بصرية واضحة التعابير من خلال ثُلةً من أحذية التلامذة مُعلقة على حبل يمتد داخل جسد العرض دلالة الامتداد الطبيعي لحبل الحياة الطبيعي بين الوطن المُستباح والمواطن المقموع في جميع الأزمنة، دلالةً اختزلت الكثير من متون النص الرؤيوية، الذي يُفصح عن فجائع إنسانية مُتعددة عاشها “جليدان” من خلال مراحل حياتهِ المُختلفة. وحسناً فعل المُخرج حينما أعاد صياغة تلكَ الفجائع في صور بصرية ذهنية مُتقدة ذات تحولات عديدة بالتماهي مع صوت “فيروز” الذي رفعَ من وتيرة العرض المُتماسك في ايقاعهِ المُتخم بتلكَ الصور وهي حسنة تُحسب للمُخرج إذا ما علمنا أننا إزاء مونودراما فكرية مُتخمة بكُل ما حَلَّ بالوطن من تلكَ الفجائع، جسدها القدير “حداقي” في أداء سلسل ومُنضبط قد تفوقَ فيهِ على نفسهِ وحازَ من خلالهِ على مقبولية واستحسان مُتلقيهِ.
أجاد “جمال آدم” كاتب نص العرض في إعادة رسم ملامح الفجيعة السورية بمحمولاتها الإنسانية العديدة، مُفصحاً عن إمكانيات كتابيّة مُتقدمة لكاتب يعي تماماً مهارات أدواتهِ الكتابيّة، فأنتَ أمام نص أرادَ أن يقول كُل شيء عن كُل شيء، (وصية مريم) عرض مونودرامي مُكتنز ومُفعم بانثيالات النفس البشرية ومكبوتاتها القاسية، عرض استطاع أن يستجلب مقومات نجاحهِ من ايمان صُناعهِ بأهمية المونودراما في إعادة انتاج الهمّ الإنساني الجامع بقالب مسرحي ذي مدلولات جماليّة فكريّة مُكتنزة.