“كله منهم”
بقلم _ عفاف البعداني
الساعة الرابعة فجرًا، ما زال الوقت باكرًا لأستيقظ. الجميع هنا موهوم بالنوم. الأشياء المعتمة تتحدث كثيرًا، وأجسادنا تعرف أنصاف الحقيقة، والحقيقة الكاملة هي نفسها المعجزة التي لم تولد في أي صباح. جدتي تطفئ كل المصابيح مساءً، تعتقد أن بداخلنا جينات أبناءها، يغطون في النوم، ويرتاحون بدون سماع الموسيقى. أفكر كثيرًا: ليت جدتي تعلق سحرًا على رأسي حتى أنام ملء عيني ولو لمرة واحدة. دائمًا نظن أن هناك المزيد من النور كلما كنا مستيقظين، ومع ذلك تنام وتترك النافذة مفتوحة فوقها. أحاول إغلاق جزء منها، لكن عنكبوتًا متوحشًا التهم فراشة. ليس الوقت مناسبًا لأنتقم الآن، “فليس ينقصني مطر آخر”.
الليلة الواحدة والألف من التعب مضت، بينما جماليات جدتي تتضاعف كل صباح. تفترض علينا أن التعب راحة، ونتقبل ذلك بلا نقاش. يشق الخلق طريقهم في مناكب الحياة، وأنا أستخدم أرجلي للمشي ولا أنتظر أحدًا. صديقتي تحب النوم، وأنا أكره الاستيقاظ متأخرة. أفضل المشي وحدي على أن أنتظر دقيقة واثنتين وثلاثًا. تحذرني أن المجنون العاقل قد أصيب بالهذيان، لا أهتم، لقد امتلأ عمري بهذه القرية، لذا دائمًا لا أخاف من أن أكون وحدي في هذه الطريق.
ولكن، ما هذا؟ إنه هو، يرتدي فستان أمه. من أين أخرجه، مزركشًا بالأحمر المتعب والذهبي الشاحب؟ لا شيء فيه صالح سوى بعض الخرز، لكنه يبدو سعيدًا، يبتسم وينظر بمكر. بنطاله المحروق معلق في يده ووجهه جاف، يعدو أكثر من اللازم، وينظر لنفسه كثيرًا كما لو كان عريسًا يستعرض نفسه. لا أدري: إن كان علي أن أضحك أم أبكي، منظره يؤلمني. إذا ينزع ملامحي بذكاء، بينما أتابعه، فكانت آخر قطعة من فستانه قد تلاشت في غياهب العرم.
مضى الوقت وأنا على الطريق وحيدة. لا شيء يقطع سكون المكان سوى شبح أفكاري ومناجاة الخوف لرقتي. لم تمر إلا ثوانٍ، وظهر، ما الذي جرى له هذا اليوم؟ لقد مر من أمامي كثيرًا. التفت، لا أحد. أريد يدًا أمسكها. أصابع بناني بدأت تتجمد، تحركت الأشجار وظللت أترقب من سيخرج، لكنه فقط كلب. ليته يبقى بجانبي حتى أكمل هذا الحد، فقط. الخوف يستبد بي وأنا أتصنع ثباتي، لا أريد أن يحس بخوفي. يفرغ المكان أكثر. إنه اللحظة التي أوشك أن أقول: ارتكبت خطأً فادحًا.
فجأة، ظهر الحج محمود. أومأت له بيدي برفق، لم يكن لدي الشجاعة لتوجيه صوتي. لم يبالِ، بل بكل صوته قائلا: “اجزعي اجزعي لا تفتجعي”. وددت لو أرجمه برأسه، وددت لو غضيت بصري عن وجهه اللامبالي منذ البداية، وبينما رائحة عفن تتسلل نحو أنفي، وصوت الخرز وزركشة الفستان مسموع. تنفست بصعوبة، وقبضت بما تبقى من شجاعة مستعدة للركض، لكنه سبقني بخطوات. حينها شعرت بشيء يمس كتفي: همسًا في أذني “كله منهم، كله منهم”.
لم أعرف كيف قطع جسدي الصغير كل هذه المسافة بلحظات. حين توقفت تعويضًا عن كل هذا الركض، وجدته يصفق بأعلى صوته مكررا: “كله منهم، كله منهم”.
أخيرًا، وصلت إلى الباص. وتراءى لي ولهم أن كل العيون كانت مشدودة إليه، تتناقل همسات: “لقد جن منذ أخذ السيل زوجته”، وبعضهم يضيف: “لا، بل سحر هو ما أصابه”.
بعد يوم طويل وغير مألوف، عدت إلى البيت بالقليل القليل مني.
.. 13مايو
#الحملةالدوليةلفك حصار مطارصنعاء
#اتحاد كاتبات اليمن