الهويَّة المغلقة تتلاعب بالمعرفة

كنوز ميديا _ ثقافة وفن

تعمد الهوية المغلقة إلى التلاعب بالمعرفة؛ فبدلا من أن تكون المعرفة سعيًا متواصلا لاكتشاف الحقيقة، والكشف عن المزيد من طرق الوصول إليها وتجليتها، وتظل أفقا مفتوحا للأسئلة والمراجعات النقديَّة، تصير وظيفتها الدفاعَ عن الهوية، وتبريرَ أخطائها وإخفاقاتها مهما كانت مفضوحة. ولا تقتصر هذه الهوية على تسخير المعرفة للدفاع، بل تستخدمها أيضا لغلق منافذ التساؤل والنقد، ومنع أية محاولة لغربلة التراث وتمحيصه خارج رؤيتها، مع تنمية الحنين للماضي وترسيخه عبر التكرار والمبالغة، وتوليد صورٍ فاتنة له في المتخيل الجمعي، تظهره بصورةٍ مضيئة لا يشوبها ظلام.

حقلُ العلم غيرُ حقل الدين، وحقلُ المعرفة غيرُ حقل الإيمان. وظيفةُ العلم غيرُ وظيفة الدين، ووظيفةُ المعرفة غيرُ وظيفة الإيمان، مهمةُ رجل العلم في الحياة غيرُ مهمة رجل الدين. العلومُ كونيّةٌ لا هويةَ دينيّة واعتقاديّة وأيديولوجيّة لها، وإلّا لو حاول كلُّ مجتمع أن يبتكر العلومَ من جديد، ويشتقّها في سياقات دينه ومعتقده وميراثه، بدعوى أن العلومَ تأسرها بيئاتُ وثقافاتُ ودياناتُ مَن ينتجها، فإن ذلك، فضلًا عن أنه مُتعذَّر، لأن البشريّةَ احتاجت لآلاف السنين حتى وصلت العلومُ إلى هذه المرتبة، يفضي أيضًا إلى تعدّد العلوم والمعارف بعدد الأديان والمعتقدات والثقافات في المجتمعات البشريّة، وهذا ما يكذِّبه الحضورُ المكثَّف للعلوم والمعارف في العالَم كلّه، إذ نجدها ذاتَها ماثلة في مراكز الأبحاث والتربية والتعليم والتكنولوجيا ومختلف مجالات الحياة، سواء أكانت في الولايات المتّحدة الأمريكية أو أستراليا أو بريطانيا أو روسيا أو فرنسا أو الهند أو الصين أو اليابان أو ماليزيا أو إيران أو تركيا أو مصر، وغيرها في العالم.

منطقُ التاريخ وقوانينه شاملان، لكن هناك شعورًا كامنًا في لاوعي كثيرٍ من الناس في مجتمعِنا بأنّهم يشكّلون استثناءً في حضارتِهم وهويتِهم ومعتقدِهم وثقافتِهم وتاريخِهم، وكأن تاريخهم لا يخضع لما تخضع له تواريخُ المجتمعات الأخرى من قوانين، وثقافتهم تتفوق على كلِّ الثقافات، وتراثهم مختلفٌ عن كلِّ تراث، وهويتهم تنفرد بخصوصياتٍ استثنائيةٍ. ظلَّ هذا الشعورُ بالخصوصيّة والاستثناء يغذي الهويةَ باستمرار، حتى تصلّبتْ وانغلقتْ على نفسها، فبلغت حالةً تتخيل فيها أنّها مكتفيةٌ بذاتها، إذْ تعتقد أن كلَّ ما تحتاجه في حاضرِها ومستقبلِها يمدّها به ماضيها. صار تراثُها بمثابة منجمٍ زاخرٍ بكلِّ ما هو ضروري لأي عمليةِ بناءٍ ونهوضٍ، وباتت تتوهّم بأنَّ علومَها ومعارفها الموروثة تغنيها عن كلِّ علمٍ ومعرفةٍ تبتكرها المجتمعاتُ الأخرى، بدعوى أن هذه المعارف منتجاتٌ لمجتمعات أجنبيَّة تنتهك خصوصيتَها، وتهدد هويتَها، وتؤدي إلى تغريبها.

 في إطار الهويّة المغلقة الساكنة، يخفق الإنسانُ في تحقيق حضورٍ حقيقي في عالمٍ يتغيّر فيه كلُّ شيء، لأن الحضورَ الفعلي في العالم يفرض عليه أن يتغيّر هو ذاته مع تغيّر العالم. لم تعد أسوارُ أيّةِ هويّةٍ تعاند التاريخَ قادرةً على حماية نفسها أو إبقاءِ كلِّ ما كان كما كان، في عالمٍ بات فيه التغييرُ شرطًا لازمًا للبقاء.

حين تنغلق الثقافةُ والهويةُ والحضارة على ذاتها وتتوهم أنّها نهائيّة ومكتفية، تدخل مسارَ انحطاطها واندثارها وتعرضها للنسيان. لا معرفةَ حيَّة مكتفية بذاتها، لا ثقافةَ حيَّة مكتفية بذاتها، لا هويةَ حيَّة مكتفية بذاتها، ولا حضارةَ حيَّة مكتفية بذاتها. كلُّ هوية حيَّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الهويات. كلُّ ثقافة حيَّة مركبة تغتني بالانفتاح والتفاعل مع غيرها من الثقافات، وكلُّ حضارة حيَّة مركبة تنصهر فيها مكونات عدة حضارات. الحضارة لا تزدهر إلّا من خلال تفاعل خلّاق للخبرات الإنسانيّة العالميّة المشتركة؛ إذ تلتقي هذه الخبرات في مركب أكثف لتنتج أثمنَ ما ابتكره وأنجزه الإنسانُ في تطوره الحضاري. موكب الحضارات عالميّ في الوقت الذي هو محلي، ومحلي في الوقت الذي هو عالمي. العلوم الطبيعيّة والعلوم الصرفة علوم كونيّة، أما العلوم الإنسانيّة فالكوني فيها أكبر بكثيرٍ من المحلي، وإن كانت لا تخلو من بصمةِ ذات العالِم وثقافته وهويته.

 تعيد الهويةُ المغلقة بناءَ نظامٍ معرفي داخلي مغلقٍ يختص بها، تحرص على تميّزه بلغةٍ ومصطلحاتٍ خاصة، وتعمل على شيطنة المصادر الخارجية للمعرفة، خاصةً في الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، من خلال تشويهها وتقويلها ما لا تقول. وأحيانًا تستعير شيئًا من نظرياتها ومفاهيمها وتخلع عليها تسميات تراثيّة، كما يحدث في محاولات “أسلمة علم النفس”، إذ يجري نسخ ما يقوله علم النفس الحديث، وإطلاق أسماء تعود للتراث الديني عليه، ومثل ذلك يجري في أسلمة غيره من علوم الإنسان والمجتمع.

 كما يجري توظيف المقدّس كأداة احتكار معرفي، إذ يُوصَف ما يعود للتراث الديني بأنّه مقدّس يلزم تبنّيه واعتباره مرجعيَّةً لمختلف أنواع المعرفة؛ وفي ضوء ذلك التراث تتحدد مشروعية المعرفة وقبولها، أو عدم مشروعيتها ورفضها. وتُستعمل لغةٌ عاطفيّةٌ متوترةٌ مشحونةٌ بمصطلحات ذات إيقاعٍ حربي، مثل مصطلح “الغزو الثقافي” في توصيف أيّة معرفة يتلقاها الإنسان من خارج تراثه، مع تعبئة مشاعر المجتمع ضد خطرها وآثارها الفتاكة.

عندما تصبح المعرفةُ العلميّة موضوعًا للإيمان أو الدين أو العقيدة، فإنها تخرج عن كونها معرفةً بالمعنى الدقيق. ما يُسمى بـ “أسلمة المعرفة” وأمثالها ليست سوى محاولات لإنتاج هوية دينية وعقائدية للمعرفة في مختلف المذاهب الإسلامية. في هذه الحالة، تتحول المعرفة إلى ذاتٍ مغتربة عن ذاتها، إذ ترفض الهوية الدينية والعقائدية للمعرفة التفكيرَ النقدي، وتعاند النقاش، وتنزعج من التساؤل، وتُقلقها المراجعة، ولا تقبل التأمل وإعادة النظر، كما تتنكّر للغربلة والتمحيص. المعرفة العلمية تزلزل اليقينيات وتثير الشكوك والأسئلة، والشكوك والأسئلة يُجهضان التسليم المطلق الذي تفرضه الهويات المغلقة. حين تتدخل الهويات الدينية أو العقائدية في المعرفة العلميّة، فإنها تفسدها من الداخل. أسوارُ الهوية المغلقة حين تسجن فيها المعرفة العلمية تخنقها وتميت روحها الحيّة. ما يُعرف بـ “الإعجاز العلمي” وأمثاله هو تعبير عن أيديولوجيا أسلمة العلوم والمعارف، وهو أنموذج واضح لهذا التداخل الذي يفسد المعرفة العلميّة.

كان التنكّرُ للأبعاد الكونيّة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزقٍ تورّط فيه العقلُ الدينيُّ والقوميُّ في عصرنا، خاصة في مجتمعاتنا. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ في مشاريع استنزفت أموالًا طائلة وأهدرت عقولًا فذّة، وظلَّ وهمُها يلاحق عدةَ أجيال إلى اليوم، تلك المشاريع التي تسعى بلا جدوى منذ عقود لاكتشافِ هويةٍ دينيّة للعلوم والمعارف، أو التنقيب عن هويةٍ قوميّةٍ ضائعةٍ للعلم والمعرفة. نوستالجيا الهوية وأوهامها عن الذات الحضاريّة تدعو كثيرين للمطالبة بالكفّ عن استعارة المعرفة العلميّة، بدعوى تحقيق الذات الحضاريّة بعيدًا عن هيمنة الآخر الغربي. لكن ألا يجدر بهؤلاء أن يتساءلوا: أين هي علوم الذات الحديثة؟! كيف يمكننا أن نقطع الصلة بالعلوم الطبيعيّة والعلوم البحتة والعلوم التطبيقيّة والذكاء الاصطناعي والعلوم الإنسانيّة الحديثة، وهي علوم تطوّرت وتوالدت وازدهرت في مجتمعات أخرى خارج المجتمعات الإسلامية؟

إدمانُ مديح الماضي والحنين إليه في أحاديثنا وكتاباتنا ليس إلا تعبيرًا عن الإخفاق في الحضور الفعلي في عالم اليوم من خلال منجز حقيقي. كلُّ من يعجز عن الحضور عبر منجزه يلجأ إلى تعويض ذلك بفعلٍ يوهمه بالحضور. مديحُ الماضي هو شكلٌ من أشكال استجداء الاعتراف من الآخر الذي يفرض حضوره في عالم اليوم بمنجزه. هذا الحنين يفضي إلى المزيد من الضياع في أنفاقِ التراث، والغرقِ في متاهاته، وتقليدِ القدماءِ في كلِّ شيء، ومع التقليد يكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا، ويتوقف التفكيرُ عن التساؤل والنقد. k

د. عبد الجبار الرفاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى