درس قرآنيّ، في التثبّت من الأخبار..!

كنوز ميديا _ كوثر العزاوي

 

في ظلّ الحروب المعاصرة التي لم تَعدْ تقتصر على السلاح والجبهات، أصبح الإعلام ساحة معركة لا تقلّ خطورة، بل تتفوّق أحيانًا في قدرتها على اختراق الصفوف وبثّ الفوضى من الداخل في ظلّ تألّق الذكاء الأصطناعي والتكنولوجيا الحديثة. وعندما يعجز العدوّ عن إلحاق الضرر المباشر، يلجأ إلى أساليب ناعمة، منها بثّ الشائعات ونشر الأخبار الكاذبة لبثّ الرعب والقلق بين الناس.

لكن هنا تبرز مسؤولية الواعين في المجتمع؛ فليس كلّ خبر يُنشر يُصدَّق أو يعاد نشره، ولا كلّ معلومة تُتداوَل يُسلَّم بها. بل لا بدّ من التثبّت من صحتها والتأمّل في مصادرها قبل الترويج لها، وهو ما نبّهَ عليه القرآن الكريم في قصة النبيّ سليمان عليه السلام مع الهدهد، ذلك المراسل الواعي، وهو يصوّر الدرس في مشهدٍ بليغ كما ورد في سورة النمل،( من الآية ٢٠-٢٢). فليراجع.

يعود الهدهد بعد غياب، حاملاً خبرًا عظيمًا عن قوم سبأ، فيقول لسليمان عليه السلام:

{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبإٍ يَقِين..}

 

تأمّلوا هذا التعبير: “جئتك”، لم يقل “سمعتُ” أو “قالوا” أو “قرأتُ”، بل قدّم خبرًا شاهدًا عليه بنفسه، وجاء به عن يقين. ورغم ذلك، لم يُصدر النبي سليمان “عليه السلام” حكمًا سريعًا، لم يُكذّبهُ ولَمْ يُصدّقُه، بل قابل الخبر برويّة وموضوعية، وقال:

{سَنَنْظُر أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكَاذِبِين}. من هنا أخذنا الدرس العمليّ في معنى التروّي والتحقّق.

وهذا الموقف النبويّ يرسّخ قيمة عظيمة في منهج التفكير السليم: لا تُتَخذ القرارات بناءً على انفعالات أو أخبار غير مؤكدة، بل لا بدّ من التثبّت والتحقيق قبل تصديق أي معلومة أو اتخاذ موقف اتجاهها. وهذا المنهج القرآنيّ لا يقتصر على الأنبياء، بل هو قاعدة أخلاقية واجتماعية لكل فرد في كل عصر.

فالخبر الصادق يعكس قيمة ناقله، بصرف النظر عن كونه كبير أو صغير، عالم أو تلميذ، رجل أو امرأة. والمجتمعات التي تُبنى على الصدق والتثبّت، تقوى وتتماسك، بينما تلك التي تنساق خلف الشائعات، تضعف وتتفكك.

اليوم، ومع تسارع وتيرة المعلومات وانتشارها عبر وسائل التواصل، بات خطر الشائعات أكثر تهديدًا من أي وقت مضى. فكم من إشاعة بثّت الذعر، أو فرّقت الصف، أو سوّدت وجه الحقيقة، ثم تبيّن لاحقًا زيفها! لذا، لا تكونوا وَقودًا لمعركة العدو الإعلامية، ولا تتيحوا له أن يعبث بوعيكم من خلال فخّ (نسخ – لصق) دون تدقيق أو مسؤولية.

وأخيرًا:

إنّ التثبّت من الأخبار ليس خيارًا، بل هو واجب شرعي وأخلاقي، يقي المجتمع من الانجرار وراء الفتن، ويمنع الأعداء من التسلّل إلى صفوفه. فلنكن جميعًا على قدر المسؤولية، ونتأدّب بأدب القرآن في نقل الأخبار، كما فعل الهدهد، وكما علّمنا نبي الله سليمان عليه السلام.

 

٢٤-ذوالقعدة-١٤٤٦هجري

٢٢-أيار-٢٠٢٥ميلادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى