حين يغيب الرجل المناسب في المؤسسة ؟!

   بقلم _ طه حسن الأركوازي

خبير في الشأن السياسي والأمني

 

في الدول الحديثة ، لا يُقاس التقدّم بعدد المباني الحكومية أو حجم الموازنات ، بل بكفاءة من يدير هذه المؤسسات ، وعندما يُستبدل مبدأ “الرجل المناسب في المكان المناسب” بمبدأ “المحاصصة والتوازن”، تبدأ الدولة بالانهيار التدريجي من الداخل ، مهما بدأ هيكلها الخارجي متماسكاً .

أولاً : دولة تُدار بالترضية لا بالكفاءة .؟

منذ سقوط النظام السابق ، أصبح نظام المحاصصة هي القاعدة والمعيار التي يُبنى عليها توزيع المناصب لا الكفاءة أو الخبرة ، هذه الممارسة أنتجت إدارة مشلولة ، ومؤسسات يقودها أشخاص جُلبوا وفق أنتماءاتهم لا خبرتهم وقدراتهم وكفائتهم ، فتُركت الوزارات الحيوية بيد من لا يملك المؤهلات لقيادتها ، كانت النتيجة إعادة تدوير الفشل ، فكُل مسؤول غير كفء يسعى لضمان بقائه عبر تعيين من هم على شاكلته ، في دائرة مغلقة من الرداءة ، تُقصى فيها الكفاءات وتُحارب الخبرات الوطنية ، لأنها تُهدد مواقع النفوذ السياسي .

ثانياً : التفكيك الناعم للدولة .؟

قد يبدو ما يجري سوء إدارة ، لكنه يرقى إلى ما يشبه “التفكيك الناعم”. في أحد أشهر الشهادات بعد الحرب الباردة ، كشف مستشار سابق للرئيس السوفيتي أنه ساهم في إسقاط الاتحاد السوفيتي ليس عبر تسريب المعلومات ، بل عبر ترشيح أشخاص غير مؤهلين لمناصب قيادية :
مهندس زراعي لإدارة وزارة مالية ،
طبيب لقيادة قطاع صناعي ،
ومحاسب على رأس الدفاع .
هؤلاء لم يكونوا فاسدين ، لكنهم ببساطة لم يفهموا طبيعة المهام الموكلة إليهم ، فقادوا دون قصد مسار الانهيار .
ما حدث هناك ، يحدث اليوم في العراق لكن من الداخل ، الأحزاب نفسها باتت تمارس هذا النهج من خلال توزيع المناصب كغنائم ، وتهميش الكفاءات الوطنية المستقلة ، النتيجة هي مؤسسات بلا مضمون ، تتقاذفها الأهواء والمصالح الضيقة .

ثالثاً : مؤسسات تعاني إختلالاً وظيفياً .؟

في العديد من القطاعات ، تتولى إدارات غير متخصصة مسؤوليات حساسة ، ما يؤدي إلى ضعف الأداء وتراكم المشكلات ، تتنقل الملفات من إخفاق إلى آخر دون معالجات جذرية ، بينما يُواجه أصحاب الكفاءة بالتهميش أو الإقصاء لا لقصور في قدراتهم ، بل لأنهم يفتقرون إلى الغطاء السياسي أو يرفضون الرضوخ لمنطق المحاصصة .

رابعاً : الإصلاح ليس خياراً سهلاً لكنه ضروري .؟

هذه الأزمة في جوهرها ليست مجرد خلل إداري ، بل أنعكاس لبنية سياسية مأزومة تُقدّم الولاء والانتماء على الأداء والكفاءة لذلك ، فإن تجاوز هذا الواقع يتطلب إرادة سياسية جريئة ، تُعيد الاعتبار لمعايير الجدارة وتقطع مع ثقافة الترضيات ، كما يتطلب أيضاً ضغطاً مجتمعياً وإعلامياً حقيقياً يفرض على مراكز القرار التزامات تتجاوز المصالح الفئوية .
في بلد مثل العراق حيث الطاقات البشرية متوفرة والموارد متاحة ، لم يعد الفشل نتيجة طبيعية ، بل خياراً سياسياً متعمّداً ، والخروج من هذا الخيار يبدأ بمواجهة الحقيقة : الدولة لا تُبنى بالشعارات ولا تُدار بالترضيات ، بل بالكفاءات الوطنية حين تكون في المكان المناسب .

أخيراً وليس أخراً ، إن ما يعيشه العراق اليوم ليس مجرّد إخفاق إداري ، بل أزمة بنيوية تُهدّد حاضر الدولة ومستقبلها .
إن تجاهل الكفاءات وتقديم الولاءات على المهنية حوّل مؤسسات الدولة إلى هياكل جوفاء ، عاجزة عن مواكبة تحديات الواقع أو الاستجابة لطموحات المواطنين .
لكن رغم كل ذلك ، لا تزال الفرصة قائمة ، فالإصلاح ليس مستحيلاً ، طالما أن في العراق عقولًا مؤهلة وضمائر حيّة مؤمنة بأن الانتماء الحقيقي ليس لحزب أو طائفة ، بل للوطن وقد آن الأوان لتكون الكفاءة لا الولاء ، هي معيار النهوض من هذا الركام …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى