هكذا فهمتم (٢)
مالك بن نبي: الفكر الحضاري ومسألة النهضة في الإسلام – دراسة تحليلية معمقة
بقلم _الشيخ_مجيد_العقابي #مركز_الفكر_للحوار_والإصلاح
يُعتبر مالك بن نبي (1905–1973) من أهم المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث الذين ركزوا جهودهم الفكرية على قضايا النهضة الحضارية للأمة الإسلامية وتحليل أسباب التخلف والتقدم في المجتمعات الإنسانية. انطلق من رؤية فلسفية اجتماعية شاملة تجسدت في فهمه العميق للتاريخ والحضارة والظروف الذاتية والموضوعية التي تؤثر في مسار الأمم. وُلد مالك بن نبي في الجزائر عام 1905 في فترة مضطربة تشهد احتلالًا أجنبيًا وتحديات اجتماعية وسياسية كبرى. درس في فرنسا حيث اطلع على الفكر الغربي والتاريخ الفلسفي وتأثر بالحركات الفكرية التي كانت تطرح أسئلة عن الحضارة والإنسان والمجتمعات. عاد إلى بلده حاملًا طموحًا لإيجاد حلول عملية للمشكلات التي تعانيها الأمة الإسلامية مستفيدًا من الجمع بين تراثه الإسلامي وتراث الغرب الفلسفي والاجتماعي.
يُعد مفهوم الحضارة حجر الزاوية في فكر مالك بن نبي فهو يرى أن الحضارة ليست مجرد تقدم تقني أو مادي بل هي “الحياة التي تعبر عن حياة الإنسان في أبعادها الروحية والثقافية والاجتماعية” (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 25). الحضارة عنده هي نتاج تكامل عوامل مادية وروحية متشابكة تشكل “روح العصر” التي تعبر عن وعي الجماعة الإنسانية بذاتها. يرفض مالك بن نبي تفكيك الحضارة إلى عناصر منفصلة مثل الاقتصاد أو السياسة فقط بل يؤكد على وحدة الكل وأن أي خلل في جانب من جوانب الروح أو الفكر أو الممارسة يؤثر سلبًا على بقية الأبعاد.
حاول مالك بن نبي في مؤلفاته الإجابة على سؤال حاسم: لماذا تخلفت الأمة الإسلامية؟ وقدم تحليلًا عميقًا يعزو السبب إلى عوامل ذاتية داخلية وخارجية. العوامل الذاتية تتمثل في ضعف “روح الحضارة” أي الوعي الجمعي بالقيمة الحقيقية للحياة والإنسانية وهذا يشمل الجهل بالقيم والتقاليد التي تبني الحضارة. يصف هذه الحالة بأنها “ظاهرة الاستسلام” حيث تفقد الأمة قدرتها على الإبداع والتجديد (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 67). العوامل الموضوعية تشمل تأثيرات الاستعمار والهيمنة الخارجية التي تستغل هذا الضعف الذاتي لتكريس حالة التخلف لكن مالك بن نبي يحذر من أن الاعتماد على العوامل الخارجية فقط يغفل أهمية التغيير الذاتي. يقول: “التخلف ليس فقط مشكلة خارجية بل هو في الأساس أزمة ذاتية ترتبط بوعي الأمة وسلوكها” (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 112).
يركز مالك بن نبي على “القيم” و”الوعي” كعوامل محورية في بناء الحضارة والنهضة يشرح أن القيم تشكل البنية الأساسية التي ينهض عليها أي مجتمع والوعي الجماعي هو الحافز الذي يحرك هذه القيم ويجعلها فعالة. يضيف أن النهضة لا تتحقق إلا عندما يكون هناك وعي حضاري متكامل يدفع المجتمعات إلى استثمار طاقاتها البشرية والثقافية. يقول: “النهضة تبدأ في العقل والروح قبل أن تتجسد في الماديات” (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 91).
لم يكتفِ مالك بن نبي بالتحليل النظري بل قدم مقومات عملية يجب أن تتوفر لتحقيق النهضة. من هذه المقومات تجديد الفكر ضرورة مراجعة التراث وإعادة تأويله بما يتناسب مع العصر دون رفض الجذور الأصيلة. وأيضًا التعليم والتربية بناء نظام تعليمي يطور العقل ويغرس القيم الوطنية والدينية في آنٍ واحد. إلى جانب العمل الجماعي التعاون وتوحيد الجهود بين أفراد المجتمع وتحفيز روح المبادرة. وكذلك الاستقلال الاقتصادي والسياسي تحقيق السيادة الوطنية وعدم التبعية. يؤكد مالك أن النهضة ليست مجرد تقنيات أو مؤسسات بل هي “مسيرة روحية وفكرية تُترجم في سلوك عملي” (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 138).
رغم عمق فكر مالك بن نبي إلا أن هناك انتقادات موضوعية تستحق الذكر. يرى بعض النقاد أن تركيزه الشديد على العوامل الذاتية كروح الحضارة والوعي يقلل من أهمية العوامل الموضوعية الاقتصادية والسياسية مما قد يؤدي إلى تحييد الدور الحاسم للصراعات الاجتماعية والتحولات السياسية في النهضة. كما أُنتقد على بعض المفاهيم التي تبدو نظرية مجردة يصعب تطبيقها عمليًا دون تفعيل مؤسسات سياسية واجتماعية واضحة. يرى بعض الباحثين أن كتاباته تفتقر إلى منهجية بحثية دقيقة إذ تميل إلى التعميمات دون استقصاء ميداني معمق. كما يراه البعض متحفظًا أحيانًا في التعامل مع التراث وقد لا يكون واضحًا في كيفية الجمع بين الأصالة والتجديد.
يُعتبر مالك بن نبي من المفكرين الذين ساهموا في إحداث نهضة فكرية في العالم الإسلامي الحديث خاصة في فترة ما بعد الاستعمار ، حيث جمع بين الفلسفة الاجتماعية والتاريخية وبين القيم الإسلامية. أثرت أفكاره في مفكرين مثل محمد عابد الجابري ومحمد إقبال وأثرت على تيارات الإصلاح والنهضة كما استُخدمت أفكاره في تحليلات معاصرة لقضايا التنمية والتعليم والهوية في البلدان الإسلامية.
مالك بن نبي مفكر يجمع بين الرؤية الفلسفية العميقة والتحليل الاجتماعي والتاريخي متيحًا أفقًا واسعًا لفهم أسباب التخلف وكيفية تحقيق النهضة في المجتمعات الإسلامية. يتميز برؤيته المتكاملة للحضارة التي توحد بين الروح والمادة وبين القيم والواقع. مع ذلك فإن نقده الموضوعي يعكس تحديات مهمة يجب على الباحثين والمفكرين التعامل معها لمواصلة مسيرة النهضة الفكرية والحضارية.
الشيخ مجيد العقابي
مركز الفكر للحوار والإصلاح
24-05-2025
https://t.me/iljnaan