أزمة إدارة أم أزمة نظام جمود تشريعي ونشاط انتخابي
بقلم _ قاسم الغراوي
رئيس مركز انكيدو للدراسات
تتلاشى تدريجيًا الآمال المعقودة على تمرير موازنة 2025 في العراق، وسط مشهد سياسي يتسم بالجمود التشريعي، وبرلمان شبه مشلول، وحكومة تبدو منشغلة أكثر في إدارة التوازنات السياسية منها في الالتزامات الدستورية والمالية.
أن جداول موازنة هذا العام “أصبحت من الماضي” واستحالة وصعوبة تمريرها في الوقت الراهن لغياب البرلمان
ولا أفق لانعقاد الجلسات .
الحكومة العراقية لا تملك أي جدية حقيقية في إرسال جداول موازنة 2025، وحتى لو أرسلتها – وهو أمر مستبعد – فإن تمريرها غير ممكن في ظل برلمان معطَّل، بلا جلسات وبلا نصاب وبلا نواب فعليًا .
أن عقد جلسات مجلس النواب بات أمرًا بالغ الصعوبة، بسبب انشغال الكتل والأحزاب، وحتى النواب أنفسهم، بالحملات الانتخابية والاستعدادات الجارية للانتخابات العامة، ما يعني أن جداول الموازنة الجديدة لن تُناقش ولا تُقر، وستبقى وزارة المالية تعمل بما تبقى من جداول موازنات 2023 و2024.
الحكومة في مأزق الزمن السياسي
تمر بمازق عميق حيث تعهّدت مطلع العام الجاري بإرسال جداول الموازنة قبل نهاية الربع الأول، وفق تصريحات أدلى بها المتحدث باسم مجلس الوزراء باسم العوادي. لكن مرور أشهر دون إرسال الجداول يعكس إما تعطّلًا في قدرة الحكومة على صياغتها ضمن الأطر الزمنية، أو أن هنالك اعتبارات سياسية تمنع تمريرها في ظل برلمان متوتر وغير مستقر.
المالية بين أمر الواقع والمناورة
بحسب مصادر من وزارة المالية، فإن الإنفاق الحكومي لن يتوقف بغياب جداول 2025، إذ تتيح أحكام المادة (13) من قانون الإدارة المالية رقم 6 لسنة 2019 الاعتماد على جداول السنوات السابقة لتغطية النفقات الجارية الأساسية، وعلى رأسها الرواتب والدعم الاجتماعي والتشغيل المؤقت. ومع ذلك، فإن غياب الموازنة يُجمّد عمليًا الإنفاق الاستثماري، ويوقف المشاريع الجديدة، ويُربك حركة الوزارات والمحافظات.
المأزق السياسي… حين تُجمّد الدولة بقرار غير مُعلن وغياب الجداول المالية لا يُعد خللًا إجرائيًا فقط، بل يعكس أزمة سياسية مركبة تضرب في العمق. فتعطّل البرلمان بفعل الاستقطاب الانتخابي، وغياب التنسيق بين الحكومة ومجلس النواب، ويكشف أن المؤسسات الدستورية في العراق لا تعمل وفق إيقاع الدولة، بل وفق إيقاع التحالفات، وهذا ما يجعل القرارات الكبرى، كالموازنة، ضحية مباشرة لأي ارتباك سياسي.
الانتخابات تحوّلت إلى ما يشبه “حالة طوارئ سياسية”، تُجمّد فيها الدولة مؤقتًا، وتتوقف عجلة التشريع والرقابة، وتُعطَّل المشاريع وتُرحَّل القرارات. ومع غياب مجلس نواب فاعل، يُصبح الجسم التنفيذي بلا توازن مؤسسي، ويُفتح الباب على مصراعيه لتضخم الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية
نحذّر من أن تكرار هذا النموذج الذي يعزز منطق الدولة المؤقتة، أي الدولة التي تُدار بالأوامر والتعليمات والتقديرات اللحظية، لا بالموازنات والخطط السنوية.
الاقتصاد في حالة ترقّب… لا ركود ولا نمو
اقتصاديًا، يدفع غياب جداول موازنة 2025 العراق إلى منطقة رمادية: ليست حالة انهيار، لكنها أيضًا ليست نموًا مستقرًا. فالرواتب تُدفع، والنفقات الجارية تمضي، لكن بلا أفق اقتصادي واضح، ولا أولويات إنفاق مصادق عليها، ولا خريطة استثمارية شفافة. وهو ما يجعل القطاع الخاص في حالة “تجميد ” عاجز عن اتخاذ قرارات توسعية في ظل غموض السياسات العامة.
المشاريع المتلكئة مرشّحة للتراكم، والديون الداخلية والخارجية لا تجد غطاءً تشريعيًا لتسويتها، وخطط التنمية الموعودة تُحبَس في أدراج اللجان الوزارية. أما في المحافظات، فيُرهن تنفيذ المشاريع بوجود تخصيصات مركزية لا تأتي، وتُدار بعضها عبر “مناقلات” بدائية تُعيد إنتاج الفوضى المالية المحلية.
ويُجمع اقتصاديون على أن استمرار هذا النمط يُفقد الموازنة أهم وظائفها السياسية والاقتصادية: رسم الأولويات، ضبط العجز، تحفيز النمو، وتوزيع الثروة بعدالة.
غياب جداول الموازنة لهذا العام لا يمكن اختزاله في مشهد برلمان غائب، بل يعكس خللًا بنيويًا في العلاقة بين السلطات، حيث تتراجع أولويات التخطيط والتنمية لصالح المناكفات السياسية والمكاسب الانتخابية. وبينما تستمر الحكومة بالصرف وفق جداول قديمة، تبقى مشاريع البنى التحتية، والإصلاح الإداري، وبرامج الخدمات الاجتماعية معلّقة على حبال الوقت الضائع.