كنوز ميديا – متابعة
مزارع استيطانية متنقلة تتحول إلى أداة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية عبر “الاستيطان الرعوي”، في الضفة الغربية، ونمط يفرض واقعاً جديداً على الأرض، ويُهدد آلاف الفلسطينيين بالاقتلاع من أراضيهم.
بعيداً عن البناء والجدران، بين تلال الضفة الغربية، يتخذ الاستيطان الإسرائيلي شكلاً جديداً يعتمد هذه المرة على الأبقار والمراعي.
ما يُعرف بـ”الاستيطان الرعوي”، بات أداة فعّالة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، تقوده جماعات استيطانية متطرفة مدعومة وبتغطية من “الجيش” الإسرائيلي، حين يتحوّل الرعي إلى سياسة أمر واقع تُقصي الفلسطينيين من أراضيهم من دون قرارات رسمية أو أوامر مصادرة.
“الاستيطان الرعوي”:
تكتيك استيطاني جديد بلا خرائط رسمية
بدأ مصطلح “الاستيطان الرعوي” بالظهور في السنوات الأخيرة ليصف نوعاً جديداً من الاستيطان، يعتمد على إنشاء مزارع صغيرة للأبقار والمواشي تُدار من قبل مستوطنين، غالباً من التيارات الدينية المسيانية المتشددة (حركات يهودية دينية تؤمن بأن الاستيطان وفرض السيطرة على “أرض الميعاد” واجب ديني)، وتُستخدم لتحديد السيطرة الميدانية على الأراضي.
ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة “كيرم نافوت” الإسرائيلية، وصل عدد المزارع “الاستيطانية الرعوية” إلى 77 مزرعة غير قانونية في الضفة الغربية حتى أواخر عام 2023، تنتشر خصوصاً في مناطق الأغوار وجنوب نابلس.
وتعمل هذه المزارع على السيطرة الفعلية على نحو 240,000 دونم من الأراضي الفلسطينية، وهي مساحة تعادل تقريباً 10% من مساحة الضفة الغربية. وتجري السيطرة من دون أوامر مصادرة رسمية أو بناء “وحدات استيطانية مرخصة”، بل فقط عبر الرعي المتواصل والمرافقة المسلحة من قبل المستوطنين.
البقرة في الاستيطان الرعوي.. أداة لتقسيم الأراضي
في بعض المزارع الاستيطانية، تُستخدم الأبقار بطريقة منظمة لتحديد “نطاق النفوذ”، إذ يُعتبر كل موقع ترعى فيه الأبقار، وباستمرار، “أرضاً مأهولة” من قبل المستوطنين الإسرائيليين. في المقابل، يُمنع الفلسطينيون من دخول هذه الأراضي أو الاقتراب منها، وغالباً ما يتعرضون للاعتداء أو الطرد بالقوة من قبل مستوطنين مسلحين.
وقد رصدت منظمات حقوقية محلية ودولية عشرات الحالات التي مُنع فيها المزارعون الفلسطينيون من الوصول إلى أراضيهم التي اعتادوا زراعتها لعقود، بسبب وجود الأبقار التي يطلقها المستوطنون في تلك المناطق.
وتُظهر بيانات مركز المعلومات الإسرائيلي في الأراضي المحتلة “بتسيلم”، أنّ أكثر من 18 تجمّعاً بدوياً فلسطينياً جرى تهجيرها خلال السنوات الأخيرة بسبب ضغوط متواصلة من المزارع الاستيطانية الرعوية. يشمل ذلك طرد العائلات الفلسطينية من مساكنها، ومصادرة المواشي، وتقييد حركة المياه والرعي.
وفي الأغوار الشمالية وحدها، اضطر أكثر من 1,000 فلسطيني إلى مغادرة أراضيهم منذ 2020، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة وحرمانهم سبل العيش الأساسية.
استراتيجية الاستيطان الجديد: أرض بلا قرار وبلا حدود
يشير باحثون إسرائيليون إلى أن “الاستيطان الرعوي” لا يُدار فقط من قبل جماعات استيطانية فردية، بل يحظى بدعم ضمني من ضباط كبار في “الجيش” الإسرائيلي، خصوصاً في قيادات المناطق في الضفة الغربية. ووفقاً لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فإن ما لا يقل عن 20% من قادة الكتائب والوحدات الميدانية في الضفة الغربية هم من سكان المستوطنات، وبعضهم يرتبط مباشرة بجمعيات استيطانية تنشط في إنشاء المزارع الرعوية.
وبحسب منظمات حقوق الإنسان، يفسّر هذا الواقع غياب تدخل “الجيش” الإسرائيلي في عشرات الحوادث التي وثّقت فيها اعتداءات مباشرة من قبل المستوطنين على الفلسطينيين، خصوصاً في المناطق المحاذية للمزارع الرعوية.
ومن أبرز سمات “الاستيطان الرعوي” أنه لا يقوم على قرار رسمي من حكومة الاحتلال الإسرائيلي أو مخططات بناء مصادق عليها، “ما يجعله أكثر مرونة وفعالية من الناحية الميدانية”، فكل ما يحتاجه المستوطن هو خيمة، وبضعة رؤوس من الأبقار أو الأغنام، وسلاح يحمي “نطاق الرعي”.
كما أن سلطات الاحتلال تتغاضى عن هذه الأنشطة، بل وتقدم الدعم في بعض الحالات، مثل إيصال المياه أو ربط المزارع بشبكات الكهرباء، رغم كونها غير قانونية حتى وفق القانون الإسرائيلي.
تصاعد الاعتداءات في محيط المزارع الرعوية
ووثقت مؤسسات حقوقية فلسطينية في السنوات الأخيرة، آلاف الاعتداءات التي نفذها مستوطنون في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، بما في ذلك تدمير محاصيل، وطرد مزارعين، وإحراق ممتلكات. نسبة كبيرة من هذه الهجمات وقعت في مناطق قريبة من المزارع الرعوية.
وبحسب إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن مئات الفلسطينيين نزحوا من مناطقهم في الضفة بسبب العنف المرتبط بالمستوطنين، معظمهم من مناطق تُستخدم فيها الأبقار كوسيلة للسيطرة على الأرض. وفي سياق تمدد المزارع الاستيطانية الرعوية، سجّلت الضفة الغربية تصاعداً لافتاً في الاعتداءات الإسرائيلية خلال عام 2025، ولا سيما في المناطق المحاذية لتلك المزارع.
وبحسب معطيات “جيش” الاحتلال نفسها، بلغ عدد الاعتداءات التي نفذها مستوطنون إسرائيليون ضد فلسطينيين خلال الشهرين الأولين من العام الجاري 139 اعتداءً، بمعدل مرشح لتجاوز 800 اعتداء سنوياً إذا استمرت الوتيرة التصاعدية الحالية. وتتركز نسبة كبيرة من هذه الهجمات في مناطق الأغوار وجنوب نابلس، حيث تنتشر المزارع الرعوية بشكل لافت.
الاستيطان الرعوي يتمدد والانتهاكات تتصاعد
يتقاطع انتشار المزارع الاستيطانية الرعوية مع ارتفاع ملحوظ في وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، ولا سيما في المناطق الريفية والزراعية المستهدفة.
وفي تقرير صادر عن هيئة الجدار والاستيطان الفلسطينية، تم توثيق 1,593 اعتداءً ارتكبتها قوات الاحتلال والمستوطنون في الضفة الغربية خلال شهر كانون الثاني/يناير 2024 فقط، شملت 291 اعتداء في الخليل، 203 في القدس، و200 في نابلس، وهي من أبرز المناطق التي تنتشر فيها مشاريع الاستيطان الرعوي. وهذا التصعيد المنهجي يعكس سياسة ميدانية تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها، وتأمين “هلال رعوي” استيطاني يمتد على حساب الوجود الفلسطيني، من دون الحاجة إلى قرارات رسمية أو بناء مستوطنات دائمة.
لم يعد الاستيطان في الضفة الغربية حكراً على الكتل الإسمنتية والمخططات الحضرية، بل بات يتسلل عبر أنماط جديدة كـ”الاستيطان الرعوي” الذي يُعيد تشكيل الجغرافيا بصمت وفاعلية. ومع توسّع هذه الظاهرة، تصبح الأرض الفلسطينية مسرحاً مفتوحاً لسياسات الإقصاء والضم، في ظل غياب أي مساءلة دولية جادة، ووسط معاناة متفاقمة للفلاحين الفلسطينيين الذين يفقدون أرضهم موسماً بعد آخر. ع666