كنوز ميديا – بغداد
يؤدي الفن التشكيلي في المجتمعات التي تعاني من تعقيدات سياسية وتاريخية متراكمة، دوراً موازياً للوثيقة التقليدية، بوصفه حاملاً للذاكرة الجماعية، ووسيلة للتأريخ غير الرسمي الذي يعيد صياغة الأحداث بلغة بصرية. ولا شكَّ أن الفن حين يشتبك مع لحظات مفصلية من التاريخ السياسي، يُنتج رؤية تأويلية تتجاوز الحدث إلى ما يرمز إليه في الوعي الجمعي. في هذا السياق، تبرز لوحة الفنانة العراقية وداد الأورفلي التي تصوّر فيها لحظة هروب نوري السعيد إبان ثورة 14 تموز 1958، ليس بوصفها توثيقاً مباشراً للحادثة، بل باعتبارها فعلاً تأويلياً يعيد إنتاج الذاكرة في صيغة رمزية.
لقد شكّلت واقعة مقتل نوري السعيد بعد محاولته التنكر بعباءة نسائية لحظة فارقة في الوعي السياسي العراقي. لم تكن القصة مجرد نهاية لرئيس وزراء نافذ، بل لحظة سقوط لنظام بأكمله، تجسّدت فيها التحوّلات النفسية والاجتماعية العميقة في بنية السلطة. تشير بعض الروايات، كما أوردها عبد الرزاق الحسني في كتابه تأريخ الوزارات العراقية، إلى أن السعيد خرج متخفياً بعباءة نسائية محاولاً الهروب من غضب الجماهير، لكن أمره افتُضح بسبب “مشية جسده المميزة وصوته الذي لم يستطع تمويهَه”. هذا المشهد الواقعي تحوّل لاحقاً إلى مادة للسخرية الشعبية، ومن ثم إلى رمز ثقافي يتجاوز مجرد التسجيل الواقعي.
وهنا يبرز سؤال أساسي: ما الذي يدفع فنانة كوداد الأورفلي إلى اختيار هذه اللحظة تحديداً؟ وكيف تُحوّل مشهداً قاسياً وساخراً كهذا إلى عمل فني؟ في تحليل هذه اللوحة، نلحظ أن الفنانة لا تسعى إلى تقديم صورة فوتوغرافية للحدث، بل تعيد تأويله باستخدام وسائل التعبير الفني: اللون، والتكوين، والحركة. في اللوحة، تظهر ثلاث نساء يرتدين عباءات سوداء، وسط فضاء داخلي مشحون بالألوان الدافئة كالأصفر والبني، وتتّسم إحدى الشخصيات بوضعية جسدية مترددة، تكشف عن تناقض بين الداخل والخارج؛ إذ تنسدل العباءة على جسد يرتدي بيجامة زرقاء، ما يُحيل مباشرة إلى شخصية نوري السعيد.
لا يمكن النظر إلى هذا التكوين باعتباره واقعة مجرّدة، بل هو تمثيل لحالة سقوط رمزي؛ فالرجل الذي مثّل لعقود تجسيداً للسلطة، يختبئ الآن تحت عباءة نسائية، في مفارقة بصرية تحوّل الحدث السياسي إلى صورة مهينة للهيبة. وهنا، يستعيد الفن ما يُسميه بول ريكور بـ”الذاكرة الثقافية”، أي تلك التي تتجاوز الحدث لتصوغ معناه الرمزي في السياق الاجتماعي. فالعباءة هنا ليست مجرد قماش، بل قناع اجتماعي يُستخدم للهروب، لكنه في ذات اللحظة يكشف عن عمق المأساة؛ إذ لم يستطع السياسي أن يُنقذ نفسه حتى بالتخفي، لأن الذاكرة كانت أسرع من التمويه.
يُسهم هذا التحوّل في توسيع مفهوم التوثيق، الذي لم يعد حكراً على النصوص والمؤرخين، بل بات يشمل الوسائط الفنية التي تعبّر عن الذاكرة الجمعية بطرائق غير سردية. يقول هايدن وايت إن “السرد التاريخي ليس سوى صيغة من صيغ التعبير، لا تختلف في بنيتها التأويلية عن الفن”. وبهذا المعنى، فإن لوحة وداد الأورفلي لا تختلف من حيث الوظيفة عن أي سجل تاريخي؛ لكنها تتفوق عليه في قدرتها على تصوير الانفعال والمهانة والتحول، بلغة يتفاعل معها المتلقي على المستوى الوجداني.
تؤكد الفنانة وداد الأورفلي في إحدى مقابلاتها الصحفية أنها “ترى التاريخ لا على الورق، بل في الألوان وفي نظرات الوجوه وفي تفاصيل الزقاق”. وهذا ما يفسر تكرار حضور الأزقة البغدادية والعناصر النسائية في أعمالها، بما يعكس التوتر بين السلطة والناس، بين البنية الرسمية والذاكرة اليومية. فالمرأة في لوحتها ليست شاهدة فحسب، بل حاملة للرمز، وناقلة للحدث بلسان الجسد والصمت.
وتُظهر اللوحة قدرة الفنانة على استخدام المفارقة بوصفها أداة للتوثيق الرمزي؛ إذ تختلط السخرية بالتراجيديا، ويصبح سقوط رجل الدولة لحظة جمالية مفتوحة على احتمالات متعددة للفهم. في هذا المستوى، تُعيد اللوحة إنتاج الرواية الشعبية بطريقة تحفظ فيها التوتر الداخلي للحدث، دون الحاجة إلى خطابات تفسيرية أو شعارات سياسية.
لقد لاحظ الناقد فاروق يوسف أن “أعمال وداد الأورفلي تُشبِه كتابة مذكرات غير مكتوبة لبغداد، حيث تندمج الألوان مع الحنين، وتتحول التفاصيل إلى رموز لتاريخ صامت”. ويمكن القول إن هذه اللوحة تمثل لحظة من هذا التاريخ الصامت، حيث تتكلم الأشياء بلغة رمزية لا تحتاج إلى تعليق.
هكذا، يكشف هذا العمل الفني عن إمكانيات التوثيق عبر الفن، ويقترح بديلاً عن الوثيقة السياسية أو التاريخية. فعبر تركيزها على التفاصيل الدقيقة، والمفارقة الرمزية، واستثمار العناصر الجمالية، تنقل وداد الأورفلي لحظة سياسية صادمة إلى حقل الذاكرة الثقافية. وقد أشار الباحث ياسين النصير إلى هذا الدور قائلاً إن “الفن التشكيلي في العراق كان وما يزال بديلاً لأرشيف الدولة الممزق، ووسيلة لإعادة إنتاج الذاكرة الجمعية بلغة غير خاضعة للرقابة” .
من خلال هذا المنظور، يتبين أن لوحة وداد الأورفلي لا تسرد حادثة، بل تُعيد تأويل التاريخ السياسي الحديث للعراق بلغة البصر، وتجعل من الفن وسيلة لفهم أعمق لما وقع، وسبب وقوعه، وطريقة تلقيه في الذاكرة الجماعية. فهي لا تحاكم نوري السعيد، ولا تبرّئه، بل تُظهره في لحظة سقوطه الإنساني، وهي لحظة تختصر مرحلة كاملة من تاريخ العراق الحديث.
إن قراءة هذه اللوحة بوصفها وثيقة بديلة لا يعني التقليل من شأن المصادر التقليدية، بل يعني الاعتراف بأن التاريخ لا يُكتب فقط بالحبر، بل يُرسم أيضاً بالألوان، وتُحفر ملامحه على القماش كما تُنقش في النصوص. ومن هنا، يصبح الفن التشكيلي في العراق أرشيفاً حياً، يتجاوز الرؤية التقريرية نحو رؤية تأويلية تستوعب الهامشي والساخر والمسكوت عنه، وتُعيد توجيه الذاكرة لتصبح فعلاً نقدياً وحيّاً.222