السياسة الأمريكية أتجاه العراق بين ” أحتواء مرن و تحديات بناء شراكة ” في ظل تعقيدات داخلية وتأثيرات إقليمية متزايدة .؟

    بقلم : طه حسن الأركوازي

 الخبير بالشأن السياسي والأمني .

 

بعد أكثر من عقدين على الغزو الأمريكي للعراق ، تجد واشنطن نفسها أمام مشهد مُعقد ومفتوح على أحتمالات غير مضمونة ، يفرض عليها مراجعة دقيقة لسياستها أتجاه هذا البلد الذي بات يُشكل نقطة التقاء للتنافسات الإقليمية والدولية ، وبينما ينشغل صانع القرار الأمريكي بإعادة توزيع أولوياته في مواجهة صعود الصين وتصاعد المواجهة مع روسيا ، يتراجع الاهتمام بالعراق تدريجياً ، لكنه لا يختفي من جدول الأمن القومي الأمريكي ، بل يعاد تعريف موقعه ضمن معادلة المصالح لا المبادئ وهي :

 

أولاً : من ساحة الحرب إلى هامش التوازنات .؟

 

لم يعد العراق يحتل موقع “الساحة الأمامية” في الحرب على الإرهاب كما كان في مرحلة ما بعد 2003 ، فعلى الرغم من أستمرار المخاوف من عودة تنظيمات متطرفة مثل داعش ، إلا أن الاهتمام الأمريكي بات مُنصباً على قضايا أكثر شمولاً ، مثل أحتواء النفوذ الصيني ، وتثبيت الأمن الإقليمي في الخليج ، وإدارة الأزمات الجيوسياسية المرتبطة بأوكرانيا وإيران ، هذا التحول في الأولويات جعل من السياسة الأمريكية أتجاه العراق أقرب إلى “إدارة الحضور” من أن تكون “إعادة بناء العلاقة”.

 

ثانياً : نهج الاحتواء المرن وجود بلا رؤية .؟

 

تعتمد واشنطن حالياً ما يمكن وصفه بـ”الاحتواء المرن” في تعاملها مع الملف العراقي ، وهو نهج يقوم على الحفاظ على وجود عسكري وأستخباري محدود ضمن التحالف الدولي ، لتقديم الدعم الفني والتدريب للقوات العراقية ، دون التورط في المشهد السياسي أو الغوص في تفاصيل الانقسامات الداخلية .

في الوقت نفسه ، تحاول الولايات المتحدة الدفع بأتجاه أستقرار مؤسسي وأقتصادي عبر أدوات غير مباشرة ، مثل دعم برامج الحوكمة ، وتشجيع الاستثمار ، والمراهنة على قوى مدنية صاعدة ، لكن هذا النهج رغم مرونته لكنه يفتقر إلى رؤية أستراتيجية طويلة الأمد قادرة على موازنة المصالح الأمريكية مع متطلبات بناء دولة عراقية ذات سيادة فعلية .

 

ثالثاً : قيود الداخل وتشابك الخارج .؟

 

تواجه السياسة الأمريكية أتجاه العراق جملة من التعقيدات التي تحد من قدرتها على تحقيق شراكة حقيقية :

1• النفوذ الإيراني المتجذر داخل المؤسسات السياسية والأمنية العراقية والذي يجعل أي تحرك أمريكي محفوفًا بالتصعيد .

2• الهشاشة السياسية الناجمة عن نظام محاصصة متشظٍ ، يُنتج حكومات ضعيفة ، ومُكبله ، وعاجزة عن أتخاذ قرارات إصلاحية حقيقية .

3• الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد أستقرار الدولة من الداخل ، وتُضعف من قدرة أي شراكة على الاستمرار دون دعم تنموي حقيقي .

4• البيئة الشعبية المعادية للتدخلات الخارجية ، نتيجة تجارب مريرة مع الاحتلالات والتحالفات ، ما يفرض على واشنطن التحرك بحذر دون أستفزاز الشارع العراقي .

 

رابعاً : خيارات محدودة ومخاطر مفتوحة .؟

 

ليست لدى واشنطن خيارات واسعة في العراق ، فأنسحاب شامل سيترك فراغاً أمنياً وسياسياً قد تملؤه قوى محلية متطرفة أو إقليمية منافسة ، أما الانخراط الكثيف فليس مطروحاً ضمن المزاج السياسي الأمريكي الحالي ، في ظل تراجع الرغبة بالتورط في حروب جديدة لذلك ، فمن المرجح أن تواصل الولايات المتحدة سياسة “الاحتواء المرن” والتعاون الاستخباري المحدود ، مع محاولات أنتقائية لبناء قنوات أقتصادية وثقافية لتعزيز نفوذها الناعم ، دون الدخول في صِدام مباشر مع قوى الداخل .

 

خامساً : بين إدارة الأزمة وبناء الشراكة إلى أين تتجه واشنطن في علاقتها مع بغداد .؟

 

إن أستمرار الولايات المتحدة في نهج الإدارة المرحلية للأزمة العراقية دون التحول إلى مشروع شراكة بنيوية ، لن يحقق أستقراراً دائماً ولن يضمن مصالحها في المدى البعيد ، لقد أثبت الواقع العراقي أن النفوذ الخارجي الذي لا يرتكز على دعم داخلي شعبي ومؤسسي سرعان ما سيتآكل .؟

 

أخيراً وليس أخراً .. إن عملية بناء شراكة مستدامة مع العراق يتطلب من واشنطن التحول من عقلية “إدارة التهديد” إلى عقلية “دعم الدولة”، أي الاستثمار الحقيقي في بُنية الدولة العراقية لا في تحالفات تكتيكية مع أطراف داخلية ، يتطلب الأمر أيضاً مراجعة أدوات السياسة الأمريكية في العراق ، لتصبح أكثر فهماً لتركيبة المجتمع ، وأعمق أتصالًا بالقوى الصاعدة من خارج الطبقة السياسية التقليدية .

 

يبقى السؤال الحاسم :

هل تملك الولايات المتحدة الإرادة الكافية لتبني أستراتيجية واقعية تأخذ بعين الأعتبار تحولات الداخل العراقي وتغيرات البيئة الإقليمية ، أم أن علاقتها ببغداد ستبقى محكومة بردود الفعل ، والتكيف المؤقت مع الأزمات ، حتى يخرج العراق من دائرة الاهتمام الأمريكي بشكل نهائي .؟

فما ستختاره واشنطن في السنوات القليلة المقبلة ، سيحدد ليس فقط موقعها في العراق ، بل أيضاً شكل حضورها في الشرق الأوسط …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى