غنى بلا نهضة : لماذا لا يستثمر العراق ثرواته .؟
بقلم : طه حسن الأركوازي – الخبير بالشأن السياسي والأمني
يُعد العراق من أغنى دول العالم من حيث الموارد الطبيعية والبشرية إلا أن واقعه التنموي يعكس صورة مناقضة تماماً لهذه الوفرة ، ففي وقت نجحت فيه دول تفتقر إلى النفط والمعادن والأراضي الخصبة في تحقيق طفرات اقتصادية ، لا يزال العراق يواجه أزمات مُزمنة في الاقتصاد والخدمات والحوكمة ،
هذه المفارقة تُثير تساؤلات جوهرية :
1- ما الذي يمنع العراق من تحويل ثرواته إلى تنمية .؟
2- لماذا بقيت إمكانياته الكبرى مُعطلة على مدى عقود .؟
أولًا : دول نهضت رغم قلة الموارد .؟
لم تكن وفرة الموارد شرطاً حاسماً في نهضة الدول ، بل أثبتت التجارب العالمية أن الإرادة السياسية ، والكفاءة الإدارية والعلمية ، والتخطيط الاستراتيجي الصحيح هي مفاتيح التقدّم الحقيقي ، وخير أمثلة على ذلك :
1• اليابان :
الدولة شبه الخالية من الموارد الطبيعية حيثُ أعادت بناء أقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت ثالث أكبر اقتصاد عالمي .
2• ألمانيا :
تجاوزت دمار الحرب عبر الاستثمار في التعليم والبحث العلمي والصناعة ، حتى باتت القاطرة الاقتصادية لأوروبا .
3• ماليزيا و إندونيسيا :
حققتا نمواً صناعياً وزراعياً ملحوظاً من خلال تنمية الموارد المتاحة وتحفيز الاستثمار .
4• الإمارات و قطر :
لم تكتفيا بعائدات النفط ، بل وظفتاه في تأسيس صناديق سيادية وتنويع الاقتصاد ، وتحويل مدنهما إلى مراكز مالية وسياحية عالمية .
إن ما يجمع هذه التجارب الناجحة هو الاعتماد على الإدارة الذكية للموارد ، الحوكمة الرشيدة ، ومكافحة الفساد بشكل جذري .
ثانياً : العراق ثروات معطلة وإمكانيات مهدورة .؟
يمتلك العراق مروحة واسعة من الموارد القادرة على إحداث تحول اقتصادي شامل ، منها :
1- الثروة النفطية :
يُعد العراق خامس أكبر دولة من حيث أحتياطي النفط المؤكد عالمياً بخزين يبلغ أكثر من ( 145 مليار برميل ) ، إلا أن أكثر من 90% من موازنته تعتمد على تصدير النفط الخام ، دون تطوير الصناعات التكميلية أو الطاقات البديلة .
2- الثروات المعدنية :
مثل الكبريت والفوسفات واليورانيوم والذهب ، وهي موارد لم تُستثمر بفعالية رغم أهميتها في الصناعات الثقيلة والتحويلية .
3- الزراعة : يملك العراق أكثر من 12 مليون دونم من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة ، ما يتم أستغلاله فعلياً لا يتجاوز ربعها بسبب شح المياه مع العرض إن العراق يملك نهري ( دجلة و الفرات ) ، بالإضافة الى ضعف التخطيط ، والإهمال الحكومي .
4- القطاع الصناعي :
كان العراق يملك أكثر من 30 ألف منشأة صناعية قبل 2003 ، أُهملت معظمها أو توقفت عن العمل بسبب الانفتاح غير المنظم والمنافسة غير العادلة .
5- السياحة الدينية :
تستقبل المدن المقدسة أكثر من 20 مليون زائر سنوياً إلا أن غياب البنية التحتية ، وسوء الخدمات ، وعدم التنظيم الاقتصادي ، حرم الدولة من مردود مالي حقيقي من هذا القطاع .
6- الطاقة البشرية :
يشكل الشباب دون سن الثلاثين نحو 60% من السكان ال ( 46 مليون نسمة )، إلا أن البطالة تتجاوز ال 17% ، والفقر قُرابت ال 25% من العراقيين ، لا سيما في المحافظات الجنوبية .
ثالثاً : معوقات النهضة .؟
المُتخصص والمهتم بل حتى المتابع يُدرك بأن العراق لا يعاني من نقص في الإمكانيات ، بل من وفرة في العراقيل والفاسدين ، وفي مقدمتها :
1- الفساد المؤسسي : يُصنف العراق في المرتبة 157 عالمياً من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد لسنة ( 2024 ) ، كما ويُقدر أن أكثر من 400 مليار دولار فُقدت أو أُهدرت منذ 2003 نتيجة الفساد وضعف الرقابة .
2- الانقسام السياسي : النزاعات الحزبية ، والمحاصصة تعرقل إصدار القرارات المصيرية وتمنع تشكيل رؤية وطنية موحدة .
3- البيروقراطية الإدارية : تعد من أعقد البنى في المنطقة ، إذ يواجه المستثمرون وأصحاب المشاريع إجراءات مُعقدة تتطلب شهوراً أو ربما سنوات .
4- ضعف الاستقرار الأمني والقانوني : يؤثر سلباً على الاستثمارات ، ويجعل بيئة الأعمال العراقية من الأقل جذباً في الشرق الأوسط .
5- هجرة العقول والكفاءات : آلاف المتخصصين والخبراء غادروا البلاد ، نتيجة الإقصاء الوظيفي أو غياب الأمن أو بسبب المحاصصة وإنعدام الفرص للكفاءات والخبرات .
6- غياب التخطيط التنموي : فشلت معظم الحكومات في تبني أستراتيجية شاملة للتنمية ، رغم وجود وثائق مثل “رؤية العراق 2030” التي بقيت حبيسة الرفوف .
رابعاً : الفرصة لا تزال قائمة .؟
رغم التحديات المتراكمة لا تزال الفرصة قائمة أمام العراق للنهوض بشرط توفر الإرادة السياسية والإدارية اللازمة ، إذ يمكن البدء بعدة مسارات متوازية :
1. الإصلاح المؤسسي الشامل ، عبر إعادة هيكلة الإدارة ، وتبني الحوكمة الرقمية ، وتقليص الفساد .
2. تنشيط القطاعات غير النفطية ، كالصناعة والزراعة والسياحة ، لخلق وظائف مستدامة وزيادة الإيرادات .
3. تحسين بيئة الاستثمار ، من خلال إصدار قوانين مشجعة ، وتقديم ضمانات حقيقية للمستثمرين .
4. الاستثمار في التعليم والتدريب ، لأستعادة الطاقات البشرية وتوجيهها نحو الاقتصاد الإنتاجي .
5. إستلهام التجارب الدولية ، لا سيما في مجال الصناديق السيادية ، الشراكة بين القطاعين العام والخاص ، وتنمية المدن الصناعية .
خامساً : هل يستفيق العراق .؟
إن التاريخ الاقتصادي الحديث يُثبت أن الثروات وحدها لا تبني الدول ، بل تُبنى بالإدارة الرشيدة والإرادة الواعية ، فما لم يُدرك صناع القرار في العراق أن الزمن لا ينتظر ، فإن البلاد مُهددة بخسارة فرصها المستقبلية أيضاً ، خصوصاً في ظل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم .
العراق اليوم يقف عند مفترق طرق فإما أن يتحول إلى دولة منُتجة قادرة على تنويع إقتصادها ، وتوظيف طاقاتها أو أن يستمر في الدوران داخل دائرة مغلقة من الأزمات والتراجع .؟
أخيراً وليس أخراً .. إن مأساة العراق ليست في قلة موارده ، بل في وفرتها غير المُدارة ، فالدولة التي تملك كل مقومات النهوض لا تحتاج إلى معجزة ، بل إلى وعي وقرار بين سطور الأزمات المتكررة هناك دائماً نافذة أمل يمكن أن تُفتح بإرادة صادقة ، وتخطيط علمي ، وشجاعة في كسر القيود القديمة .
إن الموارد التي ما زالت مدفونة ، والمشاريع التي لم تُطلق ، والعقول التي هجرت البلاد …الخ ، كلها شواهد على وطنٍ يُمكن أن يكون شيئاً آخر ، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح بإلحاح اليوم هو هل نملك الإرادة والشجاعة لنبدأ .؟
ربما يكون الطريق طويلاً وشاقاً ، لكن الثمن الأكبر هو أن نبقى واقفين عند عتبة الإمكانيات دون أن نعبر بها إلى واقع مختلف ، فالتاريخ لا يرحم الدول التي تمتلك الفرص وتضيعها ، بل يكتب مجده لمن أحسن إستغلال الفُرص …!