إرث النبوة… حين تجلّى في الغدير
بقلم _ ريما فارس
حين توقّف الركب النبوي في أرضٍ تُدعى “غدير خم”، لم يكن ذلك ليرتاح المسافرون من وعثاء الطريق، بل ليتلقّى التاريخ إعلانًا هو الأوضح، والأبلغ، والأفصح في قضيةٍ ستشقُّ الأمة نصفين، وتُفجّر قرونًا من الاختلاف والتباين. قال رسول الله ﷺ في ذلك الموضع، بعد أن جمع الصحابة وردّ من تقدّم منهم وأمهل من تأخّر: “من كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.”
الحديث الذي رواه عشرات الصحابة، وثبّته المؤرخون والمحدّثون من كل المذاهب، لا يترك مجالًا للّبس حين نربطه بسياقه. فالمولى هنا ليس بمعنى الصديق أو المحبّ، بل هو المتصرّف، المتقدّم، صاحب السلطة في الدين والدنيا بعد رسول الله. كيف لا، وقد سبقه مقدّمة خطبة طويلة تحدّث فيها النبي عن قرب رحيله، وعن أهمية التمسك بالثقلين: كتاب الله وعترته الطاهرة. إن اختيار النبي لهذا التوقيت – في حجّة الوداع، وبعد أداء فرض الإسلام الخامس، وأمام أكثر من مئة ألف حاج – لم يكن عبثًا. بل هو تثبيتٌ لولايةٍ كانت تعمل في صمتٍ منذ أن نام عليّ في فراش النبي ليلة الهجرة، ومنذ أن واجه بسيفه صناديد قريش، وحتى يوم فتح مكة حين قال الرسول: “لا يُؤدّي عني إلا أنا أو رجلٌ مني.”
لكن الواقع لم يُنصف الغدير. فبعد أيامٍ قلائل من وفاة رسول الله، اجتمعت الأنصار والمهاجرون في سقيفة بني ساعدة، وتغيّرت الخلافة من مسار “من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه” إلى الشورى بين من حضر. وسقط حديث الغدير من التطبيق العملي، وبقي في ضمير الأمة يتردّد على ألسنة أهل البيت وأتباعهم، جيلاً بعد جيل. عليٌّ لم يُبايع إلا بعد ستة أشهر، وبعد أن كُسرت الضلوع وسقط الجنين وارتفعت صرخات فاطمة الزهراء. ومع ذلك، لم يحمل السيف، بل صبر، كي لا تُشقّ وحدة الإسلام، وكان يقول: “لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين.”
الغدير ليس ذكرى تمرّ مرّ الكرام. إنه معيارٌ يُقاس به من صدّق النبي حقًا. إنه الميزان بين الولاء لعليّ – لا كشخص، بل كموقفٍ، كقيمة، كنهجٍ قرآنيّ شجاع لا يعرف المداراة في الحق – وبين الانحراف عن نهج النبوّة. واليوم، نرى تطبيق الغدير في من يحملون سيف الكرامة بوجه الطغيان، من اليمن إلى لبنان، من العراق إلى فلسطين. فكل من والى الحق، ووقف مع المظلوم، ونصر العدل، فهو قد بايع عليًّا في قلبه، وإن لم يحضر الغدير.
حديث الغدير ليس مجرد حديث، بل هو عهد. عهدٌ قطعه الرسول على الأمة، وأراد لها أن تحفظه كما تحفظ القرآن. فإن خانته السياسة، فلا تخونه القلوب. وإن غاب عن كتب التاريخ الرسمية، فلا يغيب عن وجدان الأحرار.