صناعة الصواريخ الإيرانية: من البدايات المتواضعة إلى منظومة ردع إقليمية

بقلم _ضياء أبو معارج الدراجي

منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، واجهت الجمهورية تحديات أمنية جسيمة، أبرزها الحرب المفروضة مع العراق، والتي فجّرت حاجة ملحّة لبناء منظومة دفاعية مستقلة، لا سيما في مجال الصواريخ. كانت البداية متواضعة، لكن الطموح كان كبيرًا، واليوم تقف إيران كقوة صاروخية كبرى في الشرق الأوسط، تملك ترسانة متنوعة تشمل الصواريخ البالستية، المجنّحة، التكتيكية، والفرط صوتية.

المرحلة الأولى: الضرورة تولّد الصناعة (1980–1990)

مع بداية الحرب العراقية الايرانية ، وجدت إيران نفسها تحت وابل من صواريخ سكود العراقية دون امتلاك وسيلة رد مكافئة. هذا التحدي دفع القيادة الإيرانية إلى البحث عن مصادر خارجية لتوفير الصواريخ، فتحصلت على دفعات من صواريخ سكود-B عبر ليبيا وسوريا وكوريا الشمالية. لم تكتف إيران بالاستخدام، بل شرعت في دراسة هذه النماذج والبدء بتقنيات الهندسة العكسية، في خطوة مثّلت النواة الحقيقية لمشروعها الصاروخي.

المرحلة الثانية: بناء القاعدة الصناعية (1990–2005)

في هذه المرحلة، بدأت إيران بتطوير نسخها الخاصة من صواريخ سكود، فظهر أول صاروخ إيراني باسم “شهاب-1″، ثم تبعه “شهاب-2″، وكانا يشكلان بداية برنامج وطني يحمل هوية مستقلة. غير أن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع “شهاب-3″، الذي وصل مداه إلى أكثر من 1300 كيلومتر، وكان أول صاروخ إيراني قادر على الوصول إلى إسرائيل.

ما يميز هذه المرحلة هو اعتماد إيران على سياسة التطوير التدريجي، وخلق منظومة إنتاج محلية تغنيها عن الاعتماد على الخارج، في ظل الحصار والعقوبات. تم التركيز على الوقود السائل في البداية، لكن سرعان ما بدأ التوجه نحو الوقود الصلب، لما يوفره من سرعة إطلاق، وسهولة تخزين.

المرحلة الثالثة: دقة النيران وذكاء الضربات (2006–2015)

بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تعد إيران تكتفي بامتلاك صواريخ بعيدة المدى، بل سعت إلى تحسين دقتها وقدرتها على المناورة. ظهرت صواريخ جديدة مثل “قدر”، و”سجيل”، و”فاتح”، و”ذو الفقار”، والتي تميزت بدقة إصابة عالية، ووقود صلب، ورؤوس حربية أكثر تطورًا.

هنا دخلت إيران أيضًا عصر الصواريخ التكتيكية قصيرة المدى، والتي أثبتت فاعليتها في معارك ميدانية محدودة مثل استهداف مقار داعش في سوريا. أصبحت تلك الصواريخ جزءًا من العقيدة العسكرية الجديدة التي تعتمد على الردع المتدرج، من ضربة تحذيرية إلى تدمير شامل.

المرحلة الرابعة: قوة الردع الشاملة (2015–2024)

أحدثت هذه المرحلة تحولًا نوعيًا، إذ أصبحت الصواريخ الإيرانية قادرة على تجاوز أنظمة الدفاع المتقدمة مثل باتريوت والقبة الحديدية، وذلك بفضل تقنيات المناورة، والتحليق على ارتفاعات منخفضة، واستخدام رؤوس متعددة قابلة للانفصال.

برزت صواريخ مثل “رضوان” و”خيبر شكن” و”عاشوراء”، كما دشّنت إيران عهد الصواريخ الفرط صوتية بصاروخ “فتاح”، الذي لا تملك مثيله سوى دول عظمى مثل روسيا والصين. هذه الصواريخ تصل لسرعات تتجاوز 13 ماخ، وتستطيع تغيير مسارها في الجو، مما يجعل اعتراضها مهمة شبه مستحيلة.

في الوقت ذاته، دخلت إيران مجال الأقمار الصناعية عبر صواريخ حمل مخصصة مثل “قاصد” و”سيمرغ”، مما وفر لها منصة اختبار مستمرة لنواقلها بعيدة المدى، ورفع من مستوى التنسيق بين القطاعين العسكري والفضائي.

القواعد والعادات الثابتة في العقيدة الصاروخية الإيرانية

1. الاعتماد على الذات: لا تُعلن إيران عن صاروخ جديد حتى تتمكن من تصنيعه داخليًا بالكامل.
2. الهندسة العكسية ثم الابتكار: تبدأ بتقليد النماذج الأجنبية، ثم تضيف عليها تحسينات نوعية.
3. السرية والإعلان السياسي: يتم غالبًا الكشف عن الصواريخ في مناسبات سياسية أو عسكرية مهمة، ما يعطي بعدًا استراتيجيًا للإعلان.
4. الاختبارات الميدانية في حروب غير مباشرة: تُستخدم الصواريخ أو نُسخها في أيدي الحلفاء لاختبار فعاليتها، كما حصل مع الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وفصائل المقاومة في غزة والعراق.
5. التركيز على الردع وليس الهجوم: دائمًا ما تؤكد إيران أن برنامجها الصاروخي دفاعي، رغم أنه يحمل طابعًا هجوميًا واضحًا.

ما بين شهاب-1 إلى فتاح-2، قطعت إيران شوطًا طويلًا في بناء قدرة صاروخية قلّ نظيرها إقليميًا. هذا التقدم لم يكن وليد صدفة، بل نتيجة لعقيدة متماسكة، وصبر طويل، وتحدٍ للمستحيل وسط حصار خانق. ومع تزايد تهديدات الحرب، تبدو الصواريخ الإيرانية اليوم سلاح توازن استراتيجي يُحسب له ألف حساب، ليس فقط من قبل أعدائها المباشرين، بل حتى من القوى الكبرى التي تراقب هذا البرنامج بقلق وحذر.

ضياء ابو معارج الدراجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى