بين منطق الدولة ومنطق الزعيم: قراءة تحليلية في صراع المؤسسات داخل الإدارة الأمريكية وموقع إيران في معادلة النفوذ العالمي
بقلم: د. أحمد صدام كاظم الساعدي
باحث في الشأن السياسي
من يقرأ سلوك الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، لا بد أن يُدرك عمق الفجوة بين المؤسسة العميقة للدولة الأمريكية، بما تمثّله من أجهزة استخباراتية وعسكرية ودبلوماسية، وبين شخصية الزعيم الفرد الذي يتعامل مع السلطة بوصفها امتدادًا لرؤيته الأيديولوجية ومصالحه الذاتية. الواقعة التي أثارها الباحث المصري أحمد مصطفى، والمتعلقة بتقرير مديرة الاستخبارات الأمريكية تولسي غابارد حول البرنامج النووي الإيراني، تُعدّ نموذجًا دالًا على هذا التنازع البنيوي في صناعة القرار الأمريكي.
ففي الوقت الذي أكدت فيه غابارد، استنادًا إلى تقارير الأجهزة الفنية، عدم وجود أدلة قاطعة على سعي إيران لامتلاك سلاح نووي، أصرّ ترامب على رفض هذا التقرير، بل وذهب إلى حد إقصاء غابارد من اجتماعات الأمن القومي، رغم أن منصبها يخول لها الحضور والمشاركة. هذا الإجراء لم يكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل يمثل إرادة متعمدة لتغييب “منطق المؤسسة” لحساب “منطق الفرد القائد” الذي يختزل الدولة في شخصه، ويجعل من سرديته السياسية أداة لتوجيه القرار، حتى وإن خالفت المعطيات الواقعية.
ما جرى مع غابارد ليس حالة معزولة. فالتقارير التي صدرت في تلك الفترة عن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووزارة الدفاع (البنتاغون) أظهرت في أكثر من مناسبة تعارضًا واضحًا مع رؤى ترامب، سواء في الملف الإيراني أو في العلاقة مع روسيا أو حتى في التعامل مع حلفاء الناتو. وقد أُشير في تقارير إعلامية أمريكية مرموقة، مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، إلى وجود محاولات مستمرة من قبل ترامب لإعادة تشكيل الخطاب الأمني والاستخباراتي ليتماهى مع مزاجه السياسي المتقلب، بل وتم اتهامه علنًا بإساءة استخدام سلطاته التنفيذية لتهميش المؤسسات المستقلة.
غير أن البُعد الأخطر في هذا السياق، يتعلّق بالدور غير المرئي ـ أو الذي يتم التعتيم عليه عمدًا ـ للوبيات النفوذ، وعلى رأسها اللوبي الصهيوني، الذي يمارس ضغوطًا شديدة وممنهجة على مراكز القرار الأمريكي، لتوجيه السياسة الخارجية وفق أولويات الكيان الإسرائيلي. لقد ظهرت بوادر هذا التأثير في أكثر من موقف: منها انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 رغم اعتراض شركائه الأوروبيين، ومنها اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، بل وفي منع أية مفاوضات جدية قد تُفضي إلى حل النزاع الإقليمي بالطرق السلمية، خشية أن يُضعف ذلك موقع إسرائيل في المنطقة.
لا يمكن فصل رفض ترامب للتقرير الاستخباراتي عن هذا السياق الأوسع، الذي تُهيمن فيه جماعات الضغط المالي والإعلامي على ناصية القرار. وتدلّ المظاهرات التي خرجت ضده حين رفض التدخل العسكري المباشر مع الكيان الصهيوني ضد إيران، أو حين لمح بإمكانية التفاوض مع طهران، على مدى السيطرة التي تمارسها هذه الجماعات في الداخل الأمريكي، حيث تُحوّل أي نزعة نحو التهدئة إلى تهديد للأمن القومي الأمريكي من وجهة نظرها.
من الناحية الاستراتيجية، فإن هذا التداخل بين الفردية في اتخاذ القرار وبين سطوة اللوبيات يُضعف مناعة الدولة الأمريكية ويُفقدها توازنها في السياسة الخارجية. إن التجاذب المتصاعد بين مؤسسات القرار (الجيش، المخابرات، الخارجية) وبين نرجسية الزعيم الذي يريد تطويع كل التقارير لخدمة سرديته، يُنبئ بانقسامات قادمة داخل بنية الحكم الأمريكي، وهي انقسامات من شأنها ـ إن استمرّت ـ أن تُضعف فعالية الولايات المتحدة كقوة عالمية مهيمنة.
في المقابل، تظهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلاعب أكثر تماسكًا من حيث ثبات الموقف وقوة المشروع الاستراتيجي، إذ استطاعت أن تُعيد رسم توازنات المنطقة، وأن تُثبت حضورها في ملفات معقّدة كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، رغم كل الضغوط والعقوبات. ومن المؤشرات الدالة أن محور المقاومة المدعوم إيرانيًا بات يُحدث ارتباكًا حقيقيًا في بنية الردع التقليدي للكيان الإسرائيلي، كما أن واشنطن نفسها باتت مترددة أكثر من أي وقت مضى في خوض مغامرات عسكرية مباشرة في هذه الساحة المتفجرة.
لذا أن ما نشهده اليوم من تصدّع داخلي في القرار الأمريكي، ومن تزايد الحساسيات بين الأذرع المؤسسية والرأس السياسي، يُعيد تشكيل المشهد الدولي، ويمنح دولًا مثل إيران مساحات أكبر من المناورة والصمود. وإذا استمرت هذه الديناميكية، فإننا قد نشهد خلال السنوات القادمة انتقال مركز الثقل من الغرب نحو قوى إقليمية صاعدة، تكون الكلمة العليا فيها للمقاومة والشعوب، لا للهيمنة والنفوذ