من أنصار الأمس إلى أنصار اليوم: روح الهجرة ونصرة الحق في يمن الإيمان
بقلم _ بشير ربيع الصانع
تمثل الهجرة النبوية الشريفة نقطة تحول مفصلي في تاريخ الرسالة الإسلامية، إذ انتقل فيها الإسلام من واقع الاضطهاد والرفض في بيئة غير حاضنة، إلى أرض آمنت واحتضنت، ومهّدت لانطلاق المشروع الإسلامي في أبعاده الكبرى، سياسيًا واجتماعيًا وعقائديًا. ومن بين أعظم ملامح هذا التحول، يبرز الدور التاريخي لليمنيين من الأوس والخزرج، الذين قدّموا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم النصرة الصادقة، والإيواء الأمين، في وقت كانت فيه الدعوة بأمسّ الحاجة إلى من يحملها بصدق ويذود عنها بإخلاص.
وما تزال هذه الروح اليمنية المتأصلة في مجتمع الأنصار حاضرة في وجدان أبناء اليمن حتى اليوم، وهم يحملون شعلة النصرة ذاتها، ويقفون بثبات إلى جانب القضايا العادلة، وفي طليعتها قضية فلسطين. فالربط بين أنصار الأمس الذين نهضوا بمسؤوليات الهجرة وما بعدها، وبين أنصار اليوم من أبناء اليمن، هو ربط أصيل بجوهر النصرة للحق، لا بمجرد المواقف، إذ يجمعهم الانتماء نفسه إلى صف المستضعفين، ووعي المسؤولية التاريخية في زمنٍ تتمايز فيه الصفوف، وتُعرف فيه معادن الرجال.
إنّ الأنصار لم يكونوا مجرد قبائل استقبلت نبيًّا مهاجرًا، بل كانوا نسيجًا إيمانيًّا صاغته العناية الإلهية لحمل أعظم أمانة في الوجود: نصرة الرسالة المحمدية في لحظة مفصلية من تاريخ البشرية. وقد خلّد القرآن الكريم جوهر هذه المؤهلات في آية واحدة، اختزلت سجاياهم، وقالت عنهم:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ﴾،
فقد سكن الإيمان في قلوبهم كما سكنوا الدار، لا طارئًا عليهم ولا وافدًا من غيرهم، بل فطرةً راسخة، واستعدادًا سابقًا للتمكين.
﴿يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾،
فكانت المحبة خالصة، لا مشروطة بمصلحة، ولا ممزوجة بحساب، بل محبة لله، وفي الله، ولأهل الله.
﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا﴾،
طهارةُ قلب، وسعةُ صدر، ونقاءُ نية، فلا غيرة مما أُعطي المهاجرون، ولا ضيق من فضل الله، وكأنما وُهِبوا الرضا فطرةً وسجية.
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾،
فالإيثار هنا لا يأتي من فضل غنى، بل من عمق إيمان، ومن غلبة الرحمة على حب الذات، ومن كبح جماح الشح البشري، ولذلك ختمها الحق بقوله:
﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾،
وما أعظم الفلاح حين يكون جزاءً لصفاء النفس، ونُبل العطاء، وصدق الانتماء للحق.
ويزيدهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهادة لا تُشترى ولا تُنال بالتحلي، حين قال في وصفهم:
(إنكم ما علمتم تكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع)،
فهم أهل الفزعة في الشدة، وأهل الزهد في الرخاء، أهل المبادرة عند البلاء، وأهل النزاهة في مواطن الابتلاء، لا يُغريهم الغنائم، ولا تُثنيهم الشدائد، بل تُصقلهم حتى يكونوا صفوة الصف.
وقد صدقوا حين قالوا عن أنفسهم:
(إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء)،
فهم ليسوا أصحاب شعارات، بل أصحاب مواقف، لا يتقدمون بألسنتهم بل بسيوفهم، ولا يثبتون بالخطب بل في ميادين الحسم، وهذه الخصائص لم تكن ماضٍ يُذكر، بل ميراثٌ يُعاش.
واليوم، حين نتأمل هذا النموذج الإيماني المتكامل، نجد صداه حاضرًا في مجتمعنا اليمني الأبيّ، الذي لم يتنكّر لهذا الميراث، ولم يُبدّل هذا الانتماء، بل حافظ على روحه، وتجلّت أنصاريته المعاصرة في مواقفه المناهضة للطغيان الأمريكي والإسرائيلي، ووقوفه الحي مع فلسطين، لا بالشعار فقط، بل بالدم والتضحية والموقف.
إنّ الشعب اليمني اليوم، بما يحمله من وعيٍ إيمانيٍّ وبصيرةٍ قرآنية، يُعيد إلى الذاكرة صورة الأنصار الأوائل، الذين لم يُسائلوا النصر قبل أن يبذلوا، ولم ينتظروا المقابل قبل أن ينصروا، فاستحقوا أن يكونوا أنصار الله، وأن تُخلّد سيرتهم في كتاب الله، ويُكتب امتدادهم في جبهات العزّة اليوم، حيث تُرفع رايات القدس في صنعاء، وتُقاوِم كرامة الأمة في جبال صعدة، وتُصاغ صفحة الأنصار من جديد، بحروف لا يكتبها الحبر، بل تكتبها المواقف التي لا تُشترى.