المنصب في العراق كاشف المعادن لا صانع القادة .؟
بقلم_ طه حسن الأركوازي
في دهاليز السياسة ودهاليز المجتمع ، يتجسد سؤال أزلي يتردد صداه في أروقة السلطة هل يرفع المنصب صاحبه أم يكشف معدنه الحقيقي .؟
في عراق اليوم ، حيث تتراقص المصائر على حبال المناصب يصبح هذا السؤال أكثر إلحاحاً ، هو إننا لا نتحدث عن مجرد راس تُنصب على الجسد ، بل عن منصات تكشف النفوس وتُعري الأقنعة فليس الكرسي من يمنح القيمة ، بل الإنسان هو من يصنع قيمته ويُشرف منصبه .؟
هذه الحقيقة الجوهرية تتجلى بوضوح صارخ في ديناميكية السلطة لتؤكد أن المناصب ما هي إلا أختبارات تُبرز القادة الحقيقيين وتفضح المتسلقين منهم لتكشف الجوهر لا لتحدده .
إن المتأمل في واقعنا السياسي والاجتماعي يدرك أن المنصب لا يُعلي مقام الإنسان ، بل إن الإنسان هو من يُعلي من قيمة المنصب .؟
أولاً : المنصب أختبار حقيقي يكشف الصفات الكامنة للشخص .؟
المنصب ، بتعقيداته ومسؤولياته ، يُعد محكًا حقيقياً يُبرز الصفات الكامنة في الشخصية ، فكم من شخص أتسم بالهدوء والاتزان في الظروف العادية ، وما إن تبوأ مركزاً قيادياً حتى أنكشفت نزعاته التسلطية وظهر وجهه القبيح أو فساده المستتر .
على النقيض من ذلك ، فهناك أمثلة لأفراد لم تظهر فضائلهم إلا عندما كُلفوا بمسؤوليات عظيمة ، فأثبتوا كفاءة ، ونزاهة ، وأصالة لم تكن لتُعرف لولا توليهم المنصب ، هذا يكشف أن المنصب ليس هو من يصنع الرجال ، بل الرجال هم من يصنعون المناصب بقيمهم وأخلاقهم وسلوكهم ومبادئهم ، فالقيمة الحقيقية للفرد لا تُستمد من الكرسي الذي يجلس عليه ، بل من بصمته الإيجابية التي يتركها ، ومن المبادئ التي يلتزم بها ، ومن الأثر الذي يخلفه في نفوس الآخرين .
ثانياً : زوال المناصب وبقاء الأثر .؟
من الحقائق الثابتة في الحياة أن المناصب زائلة لا محالة ، فكل مسؤولية مهما عظمت لها نهاية ، وسيتغير الوضع لأسباب عديدة وتُترك المنصب ولن يبقى معه سوى الموقف الذي يتذكره الآخرون .
إما أن يدعون لك بظهر الغيب لعدلك وإحسانك وصدقك ، أو يدعون عليك لظلمك وتقصيرك وكذبك وفسادك .
لهذا ، يجب أن يحرص كُل من يتولى منصباً على أن يهابه الناس حُباً وأحتراماً وتواضعاً لا خوفًا أو رياءاً ، فالخوف والرياء مؤقتان يزولان بزوال السلطة .
أما الحب والاحترام فيبقيان لأنهما نابعان من الثقة والإيمان بالنزاهة والكفاءة .
ثالثاً : المنصب أمانة ومسؤولية جسيمة .؟
إن تولي المنصب ليس أمتيازاً بقدر ما هو أمانة ومسؤولية جسيمة ، فالقائد الحقيقي يدرك أن دوره يتجاوز مجرد إصدار الأوامر ، ليشمل خدمة الناس والعمل على تحقيق مصالحهم العامة ، وأن يكون قدوة حسنة في كل تصرفاته ، فالتواضع في موقع السلطة يزرع الهيبة في قلوب الناس .
بينما الغرور والتكبر يكشفان ضعف شخصية المتسلقين ، وكما يقول المثل :
“الكبار بتواضعهم يزرعون الهيبة ، أما الصغار إذا أرتقوا فضحهم الكرسي وعرتهم الأضواء”.؟
هذه المقولة تختصر جوهر العلاقة بين المنصب وصاحبه ، فجوهر الإنسان يظل العامل الحاسم في تحديد نجاحه وأثره .
رابعاً : المناصب بين الغنيمة والمسؤولية .؟
في سياق الواقع الراهن للعراق ، يتجلى هذا التحليل بوضوح صارخ ، لطالما شهد العراق صراعات ونزاعات أرتبطت بشكل مباشر بشغل المناصب والصراع عليها ، لقد باتت المناصب الحكومية تُنظر إليها في كثير من الأحيان كغنائم تُقسم على أسس حزبية أو طائفية ، مما أدى إلى تآكل مفهوم الخدمة العامة وتفشي الفساد ، فكثير من المسؤولين للأسف ، لم يرتقوا بالمناصب التي شغلوها ، بل على العكس كشف المنصب عن قصورهم وضعف كفاءتهم في الإدارة ، وأظهر إستغلالهم للسلطة لتحقيق مكاسب حزبية أو شخصية .
وعلى الجانب الآخر ، هناك أمثلة مُشرقة لبعض القادة والمسؤولين الذين تركوا بصمات إيجابية ، ليس بفضل المنصب في حد ذاته ، بل بفضل نزاهتهم وإخلاصهم وصدقهم وتفانيهم في خدمة بلادهم وشعبهم ، هؤلاء هم من يمثلون حقيقة أن الرجال هم من يصنعون المناصب ، ويرتقون بها إلى مستوى المسؤولية والأمانة .
إن استقرار العراق وتقدمه لا ينفصلان عن وعي المسؤولين الحقيقي لطبيعة المنصب فهو خدمة عامة ومسؤولية جسيمة لا أمتياز شخصي أو فرصة للثراء ، فعندما تتجسد مبادئ النزاهة والكفاءة والتواضع في أداء القادة ، فإن ذلك يرتقي بالعمل المؤسساتي ويعزز من ثقة المواطن ، مما يُمثل أساساً راسخاً لبناء مستقبل أفضل لهذا الشعب الذي طالما عانى .
من كُل ذلك نستخلص إن العبرة ليست في حجم المنصب أو قوة السلطة ، بل في الأثر الذي يتركه صاحبه ، فالمناصب زائلة ، وتبقى السيرة الحسنة ، والأثر الطيب ، والدعوات الصادقة ، فليكن كُل مسؤول عراقي قدوة في النزاهة والعمل الدؤوب ، ليرفع من شأن منصبه ، ويصنع تاريخاً يُذكر بالخير ، إن بناء عراق مُزدهر ومستقر يتطلب قادة يعتبرون مناصبهم تكليفاً لا تشريفاً ، وفرصة لخدمة الوطن والمواطن لا لتحقيق مكاسب حزبية أو شخصية …!