قراءة في “عصر التفاهة” للكاتب آلان دونو … دقائق ممتعة! 

هيئة التحرير – متابعة

في كتابه الصادم “عصر التفاهة” لم يكن آلان دونو يطلق أحكاماً أخلاقية بل كان يوثق سقوطاً هائلاً للقيم لا يشبه سقوط الإمبراطوريات، بل هو انهيار داخلي هادئ ناعم لكنه قاتل …

انهيار لا تسمع له جلبة لأنه لا يقع في الخارج بل في الأعماق. في الروح الجماعية التي قررت أن تستبدل المعنى بالصدى والعقل بالصورة والصمت النبيل بالثرثرة الرائجة…

 

نحن الآن هناك في قلب هذا الزمن المتحول، زمن لا يهم فيه ماذا تقول بل كم من الأشخاص أعجبوا به… زمن تتحول فيه الصورة إلى حقيقة والصوت العالي إلى معرفة والوجه الجميل إلى فكرة…

نحن نعيش زمناً أعاد تعريف القاع، قاع لا يرى لأنه يعلو ويتصدر ويصفق له الجميع،

لم تعد فيه القيم تقاس بالمعنى بل بعدد المتابعين.

 

ولم يعد الوعي معياراً للجدارة بل قدرة التافه على إثارة الضجيج في فراغ بلا جدران،

نحن في زمن غلب فيه الهامش المتن، وضاعت فيه الفكرة بين مؤثرات بصرية ومؤثرين بلا أثر …

 

إنه زمن الصعاليك الجدد لا أولئك الذين تمردوا على السلطة قديماً بحثاً عن الحرية، بل الذين باعوا كل شيء من أجل ضجيج لحظي واستبدلوا الفكر بالمؤثرات والمضمون بالتصفيق والوجود بالظهور…

 

بات من السهل أن تصبح رمزا، يكفي أن ترقص على أنقاض المعنى، أن تضحك بصوت مرتفع، أن تمتلك وجها مصفى بالفلاتر لا بالحكمة.

 

أما أولئك الذين يتقنون الحفر في النص يكتبون كمن ينقب في المناجم ويعيشون في الظل فهم المنسيون الهامشيون الذين لا مكان لهم في هذا الوطن او ذاك.

 

لقد حُسمت المعركة يا صديقي لا لصالح الشعراء ولا المفكرين ولا الفلاسفة والعلماء، بل لصالح الجميلة البلهاء والوسيم الفارغ، أولئك الذين لا يملكون من الوجود سوى ملامح مصقولة ولا من الفكر سوى فراغ مزخرف

بات الإسفاف عملة مقبولة، والضحالة طريقاً مختصراً نحو النجومية.

 

وكلما ازداد الإنسان سقوطاً في الابتذال كلما ارتفعت حوله هتافات الجماهير ، كأنما هذا العصر يعيد اختراع القاع ثم يحتفل به.

 

لقد نجحت المنصات الهلامية في إعادة تشكيل الوعي، ليس من خلال ترويج التافه بل عبر تجميله وترميزه، ولم يعد السطح عيباً، بل صار هو الواجهة، وصار شعار المرحلة اكذب ابتذل تسلق وستكرم وتتكرم.

 

أما أولئك الذين يكتبون بصمت، ويفكرون بعناء، ويحاولون أن يخلقوا معنى من فوضى الأشياء، فقد صاروا غرباء، يتكلمون لغة لا تفهم، ويحملون مشاعل في عصر يعاقب النور.

 

إنها محنة العقل في زمن الترند وخذلان المعنى أمام طوفان الصورة، وبكاء الإنسان على أطلال إنسانيته.

 

لقد أصبح الصمت النبيل مهزلة، وأضحت التفاهة صعوداً في عالم صار فيه كل شيء مستباحاً إلا المعنى،

ما الذي حدث هل تعب الإنسان من التفكير؟

هل مل العمق لأنه لا يكافأ؟

هل قرر أن ينسحب من سلّم القيم ويقيم احتفالاً دائماً في ساحة السطح؟

هل ما زال للكلمة مكان. ؟

هل ما زال للكتاب نفس؟

هل للمعنى أن يسترد مجده ؟

 

الجواب ليس سهلاً لكنه ليس مستحيلاً، فكما يكتب دونو في “عصر التفاهة” لا ينتصر العاقل إلا بالصبر الطويل ليس لأن الزمن سينصفه بل لأنه يعرف أن السطح لا ينجب حياة، وأن كل فقاعة ترتفع إنما ترتفع فقط لتنفجر.

 

أيها الحالم مثلي يا من لا تزال تكتب بصدق، وتحمل في قلبك وزن المعنى، اتوسل اليك لا تيأس.. قد يبدو أنك تخاطب الفراغ وأن صوتك يرتطم بجدران إلكترونية صماء، لكن اعلم أن الفكر لا يقاس بضجيج اللحظة بل بصدى الزمن.

 

دع التافهين يحتفلون بنجومهم الوهمية، دعهم يعتلون المنصات مثل فقاعات تتراقص لحظة ثم تتلاشى،

أما أنت فاصنع من قلمك معولا’، واحفر في وجدان هذه المرحلة القاسية فلعل الزمن يعود إليك يوماً باحثاً عن الحقيقة، فيجدك هناك كما كنت دوماً صامداً.. صامتاً.. عميقاً. 😌

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى