[ عابس الشاكري .. وعبارة : حب الحسين أجنني ]

بقلم _ الشيخ حسن عطوان 

◀ عابس بن أبي شبيب الشاكري من قبيلة بني شاكر ، وهم بطن من هَمْدان ، وقد عُرفوا بأنّهم من شجعان العرب وحماتهم .
وكانوا من المخلصين بولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام ) .

كتب الطبري :

” أقبل مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد … وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم ، قرأ عليهم كتاب [ ال ] حسين فأخذوا يبكون ، فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن الناس ،
ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرك منهم !
والله أحدثك عما أنّا موطن نفسي عليه ،
والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله ” .

بصيرة نافذة ، اذ استشرف مآل الأمور ، فهو يلمّح الى إحتمال خذلان الناس ، ومع ذلك لم يتزعزع موقفه ، فرغم توقعه الخذلان لكنّه مصمم على الدفاع عن مبادئه .

ونقل الطبري عن عابس أنّه في يوم الطف ، أنّه قال :

يا أبا عبد الله ، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليّ ولا أحب إليّ منك ، ولو قدرتُ على أنْ أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته ، السلام عليك يا أبا عبد الله ، أُشهد الله أني على هديك وهدي أبيك .

ثم مشى بالسيف مصلتاً نحوهم وبه ضربة على جبينه .

( قال أبو مخنف ) : حدثني … قال :

لما رأيته مقبلاً عرفته ، وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس ، فقلت أيها الناس هذا الأسد الأسود ( 1 ) ،

هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجن إليه أحد منكم ، فأخذ ينادي ألا رجل لرجل ؟!
فقال عمر بن سعد ارضخوه بالحجارة ، قال : فرُميَ بالحجارة من كل جانب .

فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثم شد على الناس فوالله لرأيته يكرد [ يطرد ] أكثر من مائتين من الناس ، ثم أنّهم تعطفوا عليه من كل جانب فقُتل ” ( 2 ) .

هذه هي تفاصيل قصَّة إستشهاد عابس الشاكري كما وردت في تاريخ الطبري عن مقتل أبي مخنف الذي يُعدّ أقدم مصدر عن واقعة عاشوراء .

◀ وقد وقع البحث والسؤال :

هل أنَّ عابس قد رمى سيفه ومزّق ملابسه ؟؟
ولمّا قيل له : ( هل جُننت )
أجابهم : أنَّ ( حبُّ الحسين أجنّني) ؟!!

🖋 الجواب :

المنقول في المصادر المتقدمة : أنَّ عابساً لّما رأى إحجامهم عن مبارزته ، رمى درعه ومغفره .

أما أنّه رمى سيفه ومزّق ملابسه ، فلم ينقل أحد من المتقدمين ذلك .

وايضاً لم ينقل أحد من المتقدمين أنَّ عابساً قال :

” حبُّ الحسين أجنني ” .

وكل المصادر التي بين أيدينا تُشير إلى أنّه ألقى درعه ومغفره فقط .

والدرْع : قميص من الحديد يُلبس وقايةً من السلاح .

أمّا المِغْفَرُ ، فهو : زَرَدٌ تُنسج من الحديد يُلبس على الرأس .

نعم ، أوردتْ بعض الكتب المتأخرة العبارة المُشار اليها ، بنحو مُرْسَل ، لم تذكر له سنداً ولا مصدراً .

كتبَ الشيخ أسد حيدر :

” وكان عابس بن شبيب الشاكري من أولئك الشجعان الذين يحْجم الأبطال عن مبارزتهم … وحين رأى إحجامهم عن الدنوِّ إليه احتقرهم ، واستهان بهم ، فرمى المغفر وألقى الدرع ؛ فقيل له : أَجننت يا عابس ؟! قال : حبُّ الحسين أجنَّني ” ( 3 ) .

🖋 والشيخ أسد حيدر ، ( 1327 – 1405 هج ) ، باحث معاصر ، ولم يذكر لنا مصدراً لما نقله .

وقيل :

إنَّ أول ذكرٍ لذلك كان في كتاب ( روضة الشهداء ) ، ومؤلفه : كمال الدين حسين بن علي الواعظ الكاشفي ، المتوفى سنة : 910 هجرية .

وهو كتاب قد كُتب بـالفارسية قبل ( ٥٠٠ عـام ) تقريباً .

ويُعدّ أول مقتَل باللغة الفارسية شاعت قراءته عندهم ، فصار يُقال لمن يقرأ هذا الكتاب على المنابر ( روزة خون ) ، أي قارئ الروضة .

ثم صار هذا اللقب يُطلق على الخطيب الحسيني حتى عند العرب .

◀ ويحدثنا الشيخ المطهري ( رحمه الله ) عن هذا الكتاب ومؤلفه ، قال :

” إنّ قصة زعفر الجني وعرس القاسم مثلاً ظهرت لأول مرة في الكتب على يد الملا حسين الكاشفي .

وأنا – ولم يزل الكلام للشيخ المطهري رحمه الله – قبل أنْ أرى الكتاب تصورت أنّه لا يحتوي إلّا على مثال او مثالين من هذه التحريفات ، ولكنّي بعد أنْ اطلعت عليه اكتشفت بأنّـه كتاب مخصص للأكاذيب وللتحـريف والتزوير حول واقعـة كـربـلاء … ”

وايضاً قال :

” عندما تبحث عن تاريخ هذا الرجل تعجب منه ولا تعرف بالضبط هل كان شيعياً أم سُنياً .
… فهو شيعي مائة بالمائة عندما كان يذهب إلى الشيعة ويتحدث إليهم ويَعِظَهم .
وحنفي سني عندما كـان يتنقل بين السنة …
عندما كان يذهب أحياناً إلى مدينة هـرات ( الأفغانيـة ) لزيـارة صهره ” .

” إنَّ مجالس الروضة المعروفة لدينا في إيران تعني قراءة كتاب روضة الشهداء للملا حسين الكاشفي ، أي قراءة الأكاذيب والوضع والتحريف ، ومنذ أنْ وقع الكتاب بأيدي الناس لم يعد أحد يراجع أو يطالع حقيقة الطف ” ( 4 ) .

🖋 أحبتي ..

لعل أهم خطرٍ تواجهه النهضة الحسينية ، هو عجزنا عن نقل وإيضاح مفاهيمها ودروسها العظيمة للآخر داخل الدائرة الإسلامية ، فضلاً عن الآخر في الدائرة الإنسانية .

بل أرى إننا بدأنا نفشل في إستنطاق تلك المفاهيم وإيصالها حتى لإبنائنا ، إذ لم نزل نتمسك بأساليب لم تعدّ مقنعة ولامناسبة لطريقة تفكيرهم .

ضعنا في تفاصيل ليست من صميم أهداف تلك النهضة ؛ بقصد إستدرار العاطفة ..

والحال أنَّ إحاطة ذكرى النهضة بالعاطفة وإنْ كان مهماً أيضاً ، حاله حال إستلهام الدروس والعِبر منها .

لكنَّ ماحصل في يوم الطف فاجعة عظمى تُبكي بنفسها الصخور الصماء ، دون الحاجة الى إضافات مكذوبة ، ومشَوِهة لنهضةٍ أراد لها صانعها أنْ تكون ناصعة ، لا تخاذل فيها ولا نكوص ، تُجيب عن أسئلة الثوار والمصلحين في كل زمان ومكان ..
وصاغها وصممها بنحو لن يجد الإعلام المعادي مبرراً للنيل منها .

🖋 الخلاصة :

1️⃣. إنّ عابساً القى درعه ومغفره فقط ، ليشجعهم على مبارزته ، رجل لرجل .

ولم يَثْبُت أنّه مزَّق ملابسه ، وألّقاها .

ولم يَثْبُت أنّه ألقى سيفه ، ليُسلِّم نفسه لقمةً سائغةً للموت ، بدون سيف ، فهو فقيه ، من تلامذة ( عليٍّ ) ، وقد سبقه تلميذ مخلص آخر : حُجْر بن عَدّي بن معاوية الكندي ، حينما طلب منه سيّاف معاوية :
أنْ يمدً رقبته ليقطعها بالسيف .
قال له : ما كنت معيناً للظالمين على قتلي .

لم يكن هذا خوفاً ، ولا لكسب لحظات من دنيا لم تكن تستحق البقاء عند هؤلاء الذين قد طلقوها ثلاثاً مع إمامهم ، إنّما هي الفقاهة والإخلاص ، حتى في هذا الموقف ، يريد أنْ يعطي للظالم وأعوانه درساً ، وللمستضعفين قوة ، ويريد ألّا يُضَيّع ثواباً .

وعابس من هذا الطراز الفريد ..

يشهد لذلك : أنّه في يوم الطف كان معه خادمه ( شوذب ) ، فقال له : يا شوذب ، ما في نفسك أنْ تصنع ؟ قال : … أُقاتل معك دون ابن بنت رسول الله … حتّى أُقتل .

قال : ذلك الظنّ بك … فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما أحتسب غيرك من أصحابه ، وحتّى أحتسبك أنا ، فإنّه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به منّي بك ، لسرّني أنْ يتقدّم بين يديّ حتّى أحتسبه ، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أنْ نطلب الأجر بكلّ ما قدرنا عليه ، فإنّه لا عمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب ” .
فتقدّم [ شوذب ] فسلّم على الحسين ثمّ مضى فقاتل حتّى قُتل ” ( 5 ) .

2️⃣. لا يختلف إثنان في أنَّ عابساً كبقية رجال الطف ، قد ذابوا في حب إمامهم ، لكنه لم يثبت أنّه قال : ( حبُّ الحسين أجنني ) .

كان عابس بطلاً ، نافذ البصيرة ، قوياً في ذات الله ، ولم يكن مجنوناً ( حاشاه ) ، ولا جُن في لحظة سمو ، ولا يصح أنْ يُوصَف بذلك ولو بنحو المجاز .

نعم ، هو وكبقية رجال الطف استبسلوا إستبسالاً لا نظير له ، ليوصلوا لنا عبر التاريخ رسالة مفادها : أنّ الحر لا يخشى الموت ..
حينما يكون الخيار بين الموت أو التنازل عن مبادئ الإنسان وقيمه .

أولئك رجال أدركوا أنّه بدون موتهم ..
لن تكون الحياةُ حياة ..

🖋 أحبتي ..

الغرض من هذه الأسطر :

أنَّ هذه العبارة تُرَدد مئات المرات من على المنابر وفي المراثي والقصائد ، وصوّرتْ عابساً عبارة عن :
رجل منفعل ، فقد توازنه ، ومزّق ثيابه ، وألقى سيفه ، وبرز لعدوه حاسراً بدون سلاح ..
ولمّا قيل له : أجننت ؟
قال :
( حبّ الحسين أجنّني ) .

🖋 وأزعم أنّه وبعد بحثٍ متأنٍ يمكنني القول :

بأنّ هذه العبارة لم ترد في المصادر التاريخية المتقدمة ، والمقاتل المعتبرة ، التي ذكرت وقائع عاشوراء ، وتفاصيل شهادة عابس الشاكري ( رضوان الله عليه ) ، ولم ترد فيها ولو إشارة لذلك .

نعم ، وردت على لسان بعض الخطباء ، وبعض الكتب المتأخرة التي لعل أصحابها قد ذكروها بعد سماعهم المتكرر لها من خطباء ؛ فظّنوا أنّ الخطباء قد نقلوها من مصدر معتبر .

ولعل مصدرها : كتاب روضة الشهداء كما أشرت آنفاً ، ونقلت رأي الشيخ المطهري ( رحمه الله ) في الكتاب ومؤلفه .

🖋 قد يقول قائل :

ما أهمية ذلك ؟؟
ولماذا كل هذا التدقيق ؟؟

🖋 والجواب :

أنَّ بعض الخطباء وقارئي القصيدة الحسينية قد ذهبوا بها عريضة ..

فلو كان الأمر قد توقف عند حد نقل ذلك عن عابس ووصفه به ، لهان الأمر .

لكن المشكلة : أنّ هذه القصة والعبارة قد صارتا دليلاً شرعياً لإضفاء المشروعية على كل ما يخطر في ذهن البعض من ممارسات ، قد تكون بعيدة عن أهداف النهضة الحسينية .

*************

( 1 ) هذه العبارة ، أوهمت البعض أنَّ عابساً كان أسود البشرة ، ولم يثبت ذلك .
على أنَّ بعض المصادر قد وصفته بأنّه كان رئيساً في قومه .
ولعل هذه العبارة مُصَحّفة ، وأصلها :
هذا أسد الأسود ، كناية عن شجاعته ، وليس الأسد الأسود .

( 2 ) الطبري ، محمد بن جرير ، ( ت : 310 هج ) ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، ص 264 ، وص 281 ، وص 338 – 339 ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت .

والطبري في واقعة عاشوراء يروي غالباً عن مقتل أبي مخنف ، لوط بن يحيى ، المتوفى : سنة 158 وقيل : 157 للهجرة .

وأبو مخنف وإنْ لم يثبت تشيعه بالمعنى الأخص ، أعني : ما يعبر عنه العامة بالرفض ، ولكنّه كان شيعياً في هواه لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، كأكثر الكوفيين ، غير رافضٍ لمذهب عامة المسلمين ، كما هي عبارة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي .

ومقتل أبي مخنف لم يصلنا ، والمطبوع منه لا يُعرف مصدره وفيه أغلاط كثيرة .
نعم توجد طبعة لهذا الكتاب بعنوان ( واقعة الطف ) ، قد أُستلت من تاريخ الطبري .

( 3 ) أسد حيدر ، الشيخ ، ( ت : 1405 هج ) ، مع الحسين في نهضته ، ص 208 ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، ط 2 ، 2010 م .

( 4 ) المطهري ، الشيخ مرتضى ، ( ت : 1399 هج ) ، الملحمة الحسينية ، ج 1 ، ص 41 – 43 ، تعريب السيد محمد صادق الحسيني ، الدار الإسلامية للطباعة ، بيروت ، ط 3 ، 2003 م .

( 5 ) تاريخ الأمم والملوك ، مصدر سابق ، ج 4 ، ص 338 .

**************

عظّم الله أجوركم .

[ حسن عطوان ]

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى