عاشوراء.. شهادة التاريخ المتكررة على انحراف الأمة
بقلم _ إبراهيم محمد الهمداني
في العاشر من محرم الحرام من كل عام، تجثم على صدور المؤمنين فاجعة كربلاء، تلك الحادثة الأليمة، بأحوالها وأهوالها الرهيبة العظيمة، وما اُرتكب فيها بحق آل البيت عليهم السلام، من أبشع المجازر وعمليات الإبادة المهولة، بتلك الصورة الإجرامية الوحشية القذرة، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا يجيزها الدين حتى بحق الأعداء والمحاربين، ناهيك عن المسلمين – فيما بينهم – من أبناء الملة الواحدة، ناهيك عن آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – موضع النبوة ومختلف الملائكة، ومعدن الرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
لم تكن فاجعة كربلاء وليدة لحظتها، كما سعت لتقديمها سردية التاريخ السياسي الأموي، بوصفها حادثة قائمة بذاتها، مفصولة عن ما قبلها وما بعدها، بل هي إحدى المحطات التاريخية الكارثية، التي اختطها مشروع الانحراف – الرهيب – عن خط الولاية، منذ يومه الأول، في سقيفة بني ساعدة، حيث استبدل مشروع الولاية، بمشروع البيعة، التي وصفها مهندسها الأول – عمر بن الخطاب “إنها كانت فلتة، ومن عاد لمثلها فأقتلوة”، وما بين كونها “فلتة”، وإهدار دم من عاد لمثلها، يتضح حجم الانحراف عن الرؤية الإلهية، إلى الرؤى والأهواء البشرية، ورغم الإعلان الصريح ببطلان البيعة، وخطورة مشروعها على الأمة الإسلامية، إلا أن من احتلبها بالأمس لصاحبه، قد عاد اليوم ليأخذ شطره “نصيبه” من الحلب، في ظل صمت وتخاذل جمعي مخزٍ، وتواطوء وخضوع مهين، حين لم يجرؤ أحدٌ على تذكير صاحب فتوى القتل، بخطورة عودته لمثال تلك البيعة، بل وماهو أخطر منها، في سياق مشروع الانحراف، والتأسيس لنظرية الحكم الملكي القمعي التسلطي، في انقلاب واضح وصريح، حتى على مزاعم الشورى، ومبادئ اختيار الخليفة.
لم تقف خطورة ذلك الانحراف، عند مجرد المخالفة الشرعية، لصريح الأمر الإلهي بشأن الولاية، بل امتدت تداعيات ومخاطر الانحراف، لتشمل الوجود الإسلامي، في بعديه الزماني والمكاني، كما أن الانقلاب على مفهوم الولاية، المنصوص عليه في قوله تعالى:- «انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا….»، في صفاته المخصوصة، المتعينة – تحديداً – بوجوب أمر البلاغ، المؤكد بأهميته القصوى، بوصفه معادلاً لتبليغ الرسالة بأكملها، التي لا تكتمل إلاّ به، هو ما جعل الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم – يسارع إلى تبليغ الأمر الإلهي، مقدماً – بتلك الصورة المهيبة – في غدير خم، الترجمة الفعلية والتفسير العلمي، لأمر الولاية في ذاته، وتحديد الولي بشخصه، ومشروعية التولي في امتداداتها المقدسة، «إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم»، وبذات القدر من المشروعية والوجوب، «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه»، وهو بلاغ صريح لا يخالطه شك، تكلل بالبيعة الشرعية، للإمام علي عليه السلام، بإمرة المؤمنين بلفظ التسليم والمصافحة، من قِبل أكثر من مائة ألف مسلم، أصطفوا أمام خيمته، ودخلوا عليه الواحد تلو الآخر، مصافحين وقائلين: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وبذلك المشهد العضيم، ختم الرسول الأكرم – محمد صلى الله عليه وآله وسلم – مهمته الرسالية العظيمة، بعد أن أقام عليهم الحجة، وأشهدهم على أنفسهم، وألزمهم العهد.
أسفر الانحراف عن طريق الولاية، عن نماذج مشوهة، من الاستبداد باسم الشورى الوهمية، إلى الملكية التسلطية المطلقة، التي استعبدت الناس، واستأثرت بالأموال، واستباحة الحرمات، وأسقطت الحدود، وافترت – من خلال علماء السوء – على الله الكذب، وجعلت الدين خادماً لأطماع السلطة، وقتلت أعلام الهدى والآمرين بالقسط، ضلماً وعدواناً، لإسقاط الحق ومن يعمل به.
لم يكن قتل الإمام علي عليه السلام – بسيف محسوب على الإسلام – إلا التجسيد الفعلي لمقولات وفتاوى نظرية السقيفة، التي استمرت في استهداف أعلام الهدى وقرناء القرآن، من الإمام علي عليه السلام إلى الإمام الحسن إلى الإمام الحسين إلى الإمام زيد، وصولاً إلى شهيد القرآن الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي، وشهيد الأمة والإنسانية السيد حسن نصرالله، وغيرهم من الشهداء الكرام، أنصار المشروع الإلهي، القائمين بالحق على امتداد التاريخ، ولم يكن استهدافهم بتلك الطرق الوحشية، والإمعان في القتل والإبادة، إلا انتقاماً من الرسول الأكرم في شخصه ومشروعه، ورفضاً للنهج الإلهي القويم، وهدماً متعمداً لأركان الحق، وأسس الدين والهداية، وسلب الدين قوته وحامليه، وإقامة مشروع السقيفة، وتقديم الدين بمفهومه الأموي، المليىء بالباطل والتدجين، بوصفه الدين الحقيقي، بما يضمن تهيئة الساحة الإسلامية، لسيطرة قوى الكفر والضلال من اليهود والنصارى، وعملائهم من بني أمية “الشجرة الملعونة”، ونظرائهم من قادة التطبيع والنفاق، وهكذا تظل عاشوراء محطة زمنية فاصلة، تدق جرس الإنذار في أوساط المسلمين، وتحذرهم من تداعيات الاستمرار في نهج الانحراف والضلال، وتذكرهم بما أصابهم من مصائب ونكبات، وترسم لهم مسار الخلاص والانتصار على قوى الشر، إن هم عادوا إلى مصدر الحق، ورفعوا اليد التي رفعها رسول الله بأمر من الله تعالى، والتزموا ولاية أعلام الهدى وأئمة الحق، الذين أسقطوا قوى الطاغوت والاستكبار، باذلين أرواحهم في سبيل الله ونصرة المستضعفين، وهو ما شهد الواقع مع أحداث غزة، في حال محور المقاومة المدافع عن الإسلام والمسلمين والمقدسات، تحت قيادة أعلام الهدى من آل بيت الرسول الكريم، بخلاف أنصار السقيفة والنهج الأموي، الذين تحولوا إلى النفاق والتطبيع، وحرب الإسلام والمسلمين علناً، نيابة عن قوى الكفر والإجرام، أمريكا وإسرائيل وحلفائهم، طلباً لرضاهم، واعتزازاً بهيلمانهم المصطنع، رغم سقوطهم المهين سلفاً، في غزة وجنوب لبنان واليمن وإيران، «ولله العزة ولرسوله والمؤمنين».