معادلة التوازن النووي في الشرق الأوسط
بقلم: د. أحمد صدام كاظم الساعدي
تتجه السياسة الأميركية، خاصة في العقود الأخيرة، نحو إعادة تشكيل ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط من خلال استراتيجيات متعددة، يأتي في مقدّمتها ملف الطاقة النووية، ليس بوصفه حلاً للطاقة فحسب، بل بوصفه ورقة ضغط ومساومة واستثمار طويل الأمد في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، لم يكن غريبًا أن يلوّح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بإنشاء برنامج نووي مدني في تركيا، في خطوة تعبّر بوضوح عن سعي واشنطن لإيجاد توازن استراتيجي موازٍ للبرنامج النووي الإيراني، وذلك عبر إقحام حليف قوي في الحلف الأطلسي – كتركيا – في سباق النووي، ولكن تحت المظلة الأميركية، بما يضمن في الوقت نفسه تحجيم النفوذ الروسي ومنع موسكو من مدّ جسور التعاون النووي مع أنقرة.
ما صرّح به أحد المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى، بأن “البرنامج النووي التركي ضرورة لضمان مصالح واشنطن في المنطقة”، يكشف عن البُعد الأمني والسياسي العميق لهذا التوجه، فواشنطن تسعى ليس فقط لكبح إيران، بل لإعادة ضبط توزيع موازين القوى في الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها ويبعد خصومها من الساحة، سواء روسيا أو الصين.
اللافت أن الولايات المتحدة سبق وأن عرضت على إيران مشروعًا نوويًا مشتركًا، شرط أن يكون خارج الأراضي الإيرانية وتحت إدارة أميركية-إيرانية مزدوجة. لكن طهران رفضت ذلك العرض، مدركة أن النية الأميركية لا تتعلق بنقل تكنولوجيا نووية سلمية بقدر ما تهدف إلى إخضاع القرار السيادي الإيراني للرقابة والوصاية الأجنبية، وهذا ما عبّرت عنه القيادة الإيرانية بوضوح.
أما ما تفعله واشنطن اليوم، من دعمها لصفقة طائرات F-35 لتركيا، فيمكن قراءته أيضًا في سياق إيجاد توازن عسكري تقني مقابل مشروع الطائرات الوطنية الصينية التي تعمل الصين على تزويد إيران بها، وهو مؤشر آخر على تصاعد التنافس الأميركي الصيني في قلب العالم الإسلامي، عبر ملفات الأمن والتكنولوجيا والدفاع.
من جهة أخرى، تبرز نوايا واشنطن بإنشاء مفاعلات نووية في عدد من الدول الحليفة لها في المنطقة، مثل السعودية والإمارات ومصر وتركيا، وذلك ضمن مشاريع تحمل غلافًا مدنيًا، لكنها تحمل في طيّاتها أبعادًا استراتيجية بالغة الدقة. والجدير بالذكر أن الكيان الصهيوني عبّر بوضوح عن رفضه إدخال مصر في هذا المربع النووي، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حين قال في أحد الاجتماعات الأمنية المغلقة:
“مصر خارج المربع”.
وبالرغم من الاستهداف العسكري والاقتصادي المتكرر لإيران من قبل كل من واشنطن وتل أبيب، لم تبادر طهران حتى الآن إلى شنّ هجوم مباشر على مفاعل “ديمونا” النووي الإسرائيلي، وهو ما يمكن فهمه على أنه رسالة موجهة إلى المجتمع الدولي مفادها أن إيران لا تتبنى خيار الحرب أو العدوان، وإنما تسعى إلى تحقيق توازن رادع يحفظ لها مكانتها السيادية ويحمي مصالح شعوب المنطقة من الهيمنة الإسرائيلية والغربية.
في المحصلة، يمكن القول إن الصراع النووي في الشرق الأوسط لم يعد صراعًا تقنيًا أو علميًا بحتًا، بل أصبح أداة لإعادة صياغة التحالفات، وفرض الهيمنة، والتحكم بالمسارات السياسية للدول. وبين محور يحاول امتلاك التكنولوجيا بشروطه الوطنية، وآخر يسعى لفرضها ضمن قيود سياسية واستخباراتية، تبقى معادلة التوازن النووي رهينة لإرادة من يفرض وجوده في هذه البقعة الملتهبة من العالم.