دعوات نبذ التاريخ غلاف برّاق وحقيقة مخادعة

بقلم _ عبد الكاظم حسن الجابري

نسمع كثيرا من الدعوات للتخلي عن التاريخ والانشغال بالحاضر, وترك خلافات السابقين وننشغل بخلافاتنا, وكثيرا ما تنمق وتزوق هذه الدعوات بمصطلحات رنانة وجذابة وذات بعد انساني, كدعوات التعايش السلمي وترك البكاء على الطلال ودعوات تلك امة خلت وما شابهها من دعوات.
لا أخفي عليك أيها القارئ الكريم اني في شبابي كنت اتماهى احيانا مع هذه الدعوات, وتدغدغ مشاعري تلك المصطلحات التي تطلق في هذا المجال, وأحيانا اني اردد في داخلي اننا ابناء اليوم فما شأننا والتاريخ, لكن في جانب اخر كان هناك شيءٌ يشدني الى التاريخ والى الاطلاع عليه وسبر اغوار احداثه والاعتبار بقصصه.
كلما تقدمت في الحياة, وكلما ازددت اطلاعا, وجدت ان التاريخ من ألذ المعارف التي اجد في نفسي شعفا للانتهال منه, وعطشا للارتواء به, كما اني وجدت في التاريخ حالة من الانس تجعلني افهم ما يجري في كثير من الحوادث التي تمر بنا كمجتمع, وانه –التاريخ- يؤكد ان النفس البشرية واحدة, تكتب الفضائل او تهوي في الرذائل لأسباب تقريبا متشابه في كل زمان وإن اختلفت الصورة, فمثلا السلطة والنفوذ والاموال كانت اسباب ثابتة على مر الزمان في صناعة الانحراف, وانتاج الديكتاتورية, وقمع الحريات, والتسلط على المجتمعات.
ما اثارني لكتابة هذه الكلمات هذه الايام هو ازدياد الدعوات لترك الماضي ونسيان التاريخ, وترتفع هذه الدعوات مع اشهر خاصة, وايام معينة, كشهر محرم الحرام وشهر صفر الخير, وايضا ان ما دعاني للكتابة هو ما تفوه به ما يعرف برئيس سوريا الجديد الارهابي السابق الذي اوغل بدماء العراقيين ابو محمد الجولاني والذي غير اسمه لاحمد الشرع, حيث قال وبكل صلافة “نحن قوم لا نجيد اللطم ولا البكاء, واننا ما علاقتنا بأناس قد ماتوا قبل 1400 سنة”, متناسيا هذا العتل ان ما يعتنقه من فكر هو نتاج المنهج المنحرف لتلك الفترة وتسيد بنو امية على مقدرات الاسلام العزيز.
اخذتُ أحلل هذه الدعوات التي بدأت تغسل أدمغة شبابنا, فوجدتها دعوات انسانية ظاهرها, لكتها عقائدية في باطنها, تهدف الى سلخ الجيل المسلم العقائدي المؤمن المتدين وخصوصا شباب الشيعة من هويتهم العقائدية, والتنازل عن ثوابتهم الشرعية, تحت ذريعة التعايش السلمي, وترك الخلافات, ونحن ابناء اليوم.
إن ربط التعايش السلمي بإنكار العقيدة امر من العجاب, فالحقيقة ان التعايش السلمي الحقيقي هو انك تعترف بهويتي, وتحترم عقيدتي, وان لا تحارب طقوسي وشعائري, فمثل ما تريد ان احترم افكارك فعليك عن تحترم افكاري, وهذا عين وحقيقة التعايش السلمي, لا ان تمارس معي الغاء الهوية والتهميش والاقصاء والفنك وتتسيد عليَّ وتبطش بي ثم تقول تعال لنتعايش سلميا.
احداث المنطقة الاخيرة في الشرق الاوسط, خصوصا بعد 2003 وما تلاها في العراق, ثم سقوط بعض الانظمة العربية عام 2011, مرورا بأجداث داعش 2014, وصولا لأحداث غزة والحرب بين الكيان الغاصب وايران جعلني اتجه للتمسك بالتاريخ اكثر, واعود لاطلع بشكل اوسع واشمل, فما عندي من معرفة تاريخية وجدتُ لها مصاديق في وقتنا الحالي, لكن التوسع اصبح ضرورة كي لا تمر عليًّ مخططات الاعداء, ولا تنطلي عليًّ الشعارات البراقة, ولكي اعضد اعتقادي واتمسك بهويتي اكثر واكثر وافهم ما يراد لي وما يكاد بي وبديني وعقيدتي.
ان الاعتبار من التاريخ ينجي الفرد من مهاوي الانحراف, وينقذه من براثن الاعداء الذي تملكوا المال والاعلام, وان الوقوف على حال الامم السالفة والنظر في حركة المجتمعات السابقة يعطي للانسان قوة في مواجهة التحديثات وتبصّْر في الامور ويستنقذه من التردي في الهوى.
النظر في احوال سالف الامم منهج قراني, أكد عليه الباري عز وجل في آيات كثيرة, واوجب القران النظر في احوال الامم السابقة والاعتبار بالأحداث الماضية, فالمجتمعات الانسانية هي خط واحد من التفكير والمنهجية, لكن الصور والادوات تتغير من جيل لآخر.

من مواطن التأكيد على الاعتبار بالتاريخ قوله تعال: ﴿أَوَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَيَنظُرُواْ كَيفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنهُمۡ قُوَّة وَأَثَارُواْ ٱلأَرضَ وَعَمَرُوهَآ أَكثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتهُم رُسُلُهُم بِٱلبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ ﴾ (الروم9 وقوله تعالى: ﴿أَوَلَم يَهدِ لَهُمۡ كَم أَهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِّنَ ٱلقُرُونِ يَمشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِم إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ أَفَلَا يَسمَعُونَ ﴾ (السجدة:26) وقوله تعالى ﴿ٱستِكبَارا فِي ٱلأَرضِ وَمَكرَ ٱلسَّيِّيِٕ وَلَا يَحِيقُ ٱلمَكرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِۦۚ فَهَل يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحوِيلًا ﴾(فاطر43) وقوله تعالى: ﴿أَلَم يَأتِكُم نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيم ﴾(التغابن:5) وغيرهن من الآيات التي يصدح بها القران الكريم للاعتبار من الماضي, والتأكيد على ان السُّنة في الامم الماضية جارية في الامم اللاحقة.
كذلك كانت سيرة الائمة سلام الله عليهم, الذين هم احد الثقلين الذين اوصى بهم رسول الله صلى الله عليه واله مع الثقل الاخر وهو القران الكريم, حيث شهدت احاديثهم التأكيد على الاعتبار من التاريخ, ففي وصية امير المؤمنين عليه السلام لابنه امامنا الحسن المجتبى قائلا: “أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم. بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله, وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك, أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الاسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره. ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم).
وكذلك كلامه سلام الله عليه لابنه امامنا الحسن عليه السلام في موضع اخر: “أحْيِ قَلْبَكَ بالْمَوعظَةِ… وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْماضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلوُّا وَنَزَلُوا. فَإنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلوُّا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَليلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ).
لعمري ان المتأمل في هذه الوصية يجدها كنزا معرفيا, وطريقا معبدا للنجاة من الفتن والانحراف, ومنهلا صافيا كاملا كافيا يغني عن دراسة عشرات الكتب, وسنين من البحث الاكاديمي.
الخلاصة هي ان ليست كل دعوة لنبذ التاريخ هي دعوة نقية, بل بالعكس هي دعوة خلاف ما اراده الله سبحانه وتعالى, وضد منهج ائمة اهل البيت عليهم السلام في تربية النفس وتحصينها ضد الغي والضلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى