كنوز ميديا – بغداد
لم تحظَ فكرة الموت في الفكر العربي والإسلامي بالدراسة والمعاينة، رغم أن الفكرة من الأفكار الأساسية في المنظومة الإسلامية والإنسانية بشكل عام، وفكرة الموت كما أنّها لم تحظَ بالدراسة في الفكر الإسلامي، إلّا أنّها كذلك لم تحتل مكانة مهمة في الفكر الإنساني، لكنها ومع ظهور فلسفات الوجوديّة اكتسبت اهتماما بالغا في الدرس الفلسفي، وفي كتابه الاستثنائي (الموت في الفكر الغربي) قدّم جاك شورون عرضا شاملا لفكرة الموت في الفكر الغربي وفي الديانات التوحيديّة في الغرب إلا أنه في مقاربته الشاملة لم يتعرّض للفكرة في المنظورات الإسلامية، باعتبار حاكميّة العنونة التي اتخذها في مقاربته، ونقصد بذلك عنونة كتابه “الموت في الفكر الغربي” كعنونة حصريّة تقصر المقاربة على الفكر الغربي وحسب.
مقاربة شورون مهمة في تعريف المنظورات الغربيّة للموت خصوصا في الفكر الوجودي وما يصدر عنه من تصورات عدمية وعبثية بمتضمناتها التي تؤشر مفاهيم “اليأس واللا جدوى وما يرافقهما من حالة القلق”، إذ يشير إلى أنّ الفكرة عند سارتر تتمثل في أنّها كما يقول: واقعة خالصة شأن الميلاد، يأتي إلينا من الخارج ولا يمكن التمييز أساساً بينه وبين الميلاد، وهذا التوحيد بين الميلاد والموت هو ما ندعوه بـ “الوقائعيّة”، ويوضح الدكتور إمام عبد الفتاح الوقائعيّة بأنّها صفة ما هو واقع وتطلق على أحوال الإنسان التي لا اختيار ولا إرادة له فيها.
إنّ التصور الوجودي يعزز فكرة الفردانيَّة في الموت ففيه حسب جان بول سارتر: “يتم الشعور بالفرديّة إلى أقصى درجة إذ يشعر من يموت أنَّهُ يموت وحده لا يشاركه في موته أحد ولا يستطيع أحد أنْ يحمل عنه عبء موته”، ويستنتج “أنَّ الموت أبدا ليس ذلك الذي يمنح المعنى للحياة، وإنَّما هو على العكس ذلك الذي يحرم الحياة من كل مغزى، وإذا كان علينا أنْ نموت فإنَّ حياتنا تخلو من المعنى”.
عن منظورات سارتر تصدر فكرة العبثيّة ومحمولاتها والتي يجعل من الموت برهانا عليها، كما يصدر عن هذه التصورات المنظور الجبري الذي يشير إلى سلب إرادة الإنسان وحريته في الاختيار.
جريا وراء هذه التصورات يطرح سورين كيركجارد منظوره العبثي في عدم تقبّل فكرة الموت بقوله “ترجع عدم قدرة الإنسان على تقبّل الموت إلى أنَّ المرء لا يستطيع حقا أنْ يحب من دون أنْ يتمنى الخلود لمن يحبه”.
كانت حالة القلق إزاء الموت تأسر الفكر الوجودي ولكن التأثير الأعظم كان على تفكير الفيلسوف المسيحي الوجودي جرائيل مارسيل أكثر مما هو على الآخرين، فالموت عنده يتمثل منذ البداية كدعوة دائمة لليأس، ولكن ونتيجة المؤثر الديني عليه وكذلك لتأثره بنيتشه ضمن مفهوم العَود الأبدي كنظرية ترى أن الكون وكل الوجود والطاقة تتكرر، وسوف تواصل التكرار، في شكل مماثل لذاته وبعدد لا نهائي من المرات عبر زمان أو مكان لا نهائي. فإن مارسيل ينظر إلى الميتافيزيقيا على أنَّها طاردة لليأس الملازم لفكرة الموت ويؤكد “أنني منتمٍ للعالم وفي الوقت نفسه متجاوز له، وأن الموت ليس عدماً” و”أنَّ كل فرد هو رمز أو تعبير عن لغز انطولوجي”، ولا بدَّ من الإقرار بأنَّ الوعي بهذا اللغز قد يكون في ذاته كافياً لمقاومة اليأس النابع من مواجهة الموت.
تقترب هذه التصورات من المنظور الإسلامي للموت كفكرة جمالية وبمضامين خلاصـــــيَّة ويتأكد ذلك في المنظور القــــــرآني في وصفه للآخرة وفي تصويراته الجماليّة لها وقــــد ورد في النص القرآني “وتمنوا الموت إن كنتم صادقين” وفي مســــار دعوته كان الرسول (ص) يؤكد هذه المنظــــــــورات ويحث صحابته عليها وفي الأدعية الكريمة يرد هذا المعنى الخلاصي “ربِّ أصلح لي أمر آخرتي فإنها دار مقري واليها من مجاورة اللئام مفري”.
هذا المنظور الخلاصي يكتسب أعظم تجسداته في مقولة الإمام علي (ع) حين اغتياله “فزتُ وربِّ الكعبة” والتي تماثلها مقولة الحسين (ع) “إني لا أري الموت إلا سعادةً والحياة مع الظالمين الاّ برماً”. غير أنّ واقعة الطف جسّدت هذه المنظورات بجميع أبعادها وتجلياتها الجماليّة، فالإمام الحسين (ع) يشبه الموت بالقلادة ضمن هذا الوصف البليغ “خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ القلادة على جيد الفتاة” وهي المقولة التي تمثلها سفير الحسين إلى البصرة سليمان بن رزين في مواجهته لابن زياد وفي المشاهد الملحميَّة لأصحاب الحسين كانت هناك تجسيدات في تقبل الموت كفكرة جماليّة وخلاصيّة.
إنَّ الموت في المنظور الإسلامي وكما تجسّد في واقعة الطف يكتسب معنى ومغزى عميق في تجسيد القيم وتحقيق مطالب الحرية والحق، وبذلك يكتسب مغايرته للمنظور الغربي حول فكرة الموت، والى هذا المعنى في تحقيق قيم العدالة والحق يشير الإمام علي الأكبر في مساءلته لأبيه الحسين ألسنا على الحق؟ إذن “لا نبالي أن وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا”.
إنّ واقعة الطف بالأساس هي رحلة لنشدان الخلود والخلاص عبر الموت، لكنّه ذلك الموت الذي يمنح معنى للحياة ويحقق مطالب حرية الإنسان وخلاصة من الاستبداد والتجبّر، وهو ما يوضحه الإمام في مقصدياته للخروج على إمبراطورية الطغيان الأموي بمقولته العظيمة “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين”.
وفي موضع آخر يدعم هذه المقصديات في تحقيق الإصلاح عبر الموت يقول الإمام في هذا النص “إذا كان دين محمد لن يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني” والذي يقال إنه ليس للإمام ولكنه مقطع من قصيدة للشاعر العراقي محسن أبو الحب، لكن وعلى العموم فإنّ النصّ يعبر عن موقف الإمام الحسين في تقبل الموت كفكرة خلاصية وإصلاحية تسهم في زحزحة إمبراطوريات الشر وهو ما تحقق في واقعة الطف الخالدة.222