العراق بين تآكل النظام السياسي وخريطة العولمة الأمريكية القادمة
بقلم: د. أحمد صدام كاظم الساعدي
تمرّ الساحة السياسية العراقية اليوم بمخاض غير اعتيادي قد يُفضي إلى انهيار العملية السياسية القائمة برمتها، نتيجة تراكمات داخلية وضغوطات خارجية مركّبة. في هذا المشهد المضطرب، تبرز مجموعة من التطورات المتلاحقة التي تُنذر بتحوّلات جذرية، ليس فقط في بنية الحكم، بل في خارطة الدولة نفسها ككيان سياسي سيادي.
فمن جهة، تلوح في الأفق أعظم خطوة سياسية قد يُقدم عليها السيد مسعود بارزاني، وهي انسحاب المكون الكردي من العملية السياسية في بغداد. خطوة كهذه ـ إن تحققت ـ ستكون بمثابة ضربة قاصمة للتمثيل البرلماني المتوازن، وستُفقد العملية السياسية أحد أركان التوازن القومي الذي تأسس منذ عام 2003.
هذا الانسحاب المرتقب ـ والذي تشير معطيات إلى أنه يحظى بغطاء دولي ـ لن يكون حدثًا منفردًا أو معزولًا، بل يُتوقع أن يتبعه انسحاب تدريجي من قبل المكون السني، خصوصًا مع تصاعد الإحباط الشعبي والسياسي من جدوى العملية الانتخابية، وتراجع الثقة بقدرة البرلمان على تمثيل إرادة المكوّنات.
وقبل هذا وذاك، لا يمكن إغفال تقاطع التيار الصدري الكامل مع الانتخابات البرلمانية، وما لهذا القرار من أثر بالغ على البنية الشيعية في الدولة، باعتبار التيار ركيزة اجتماعية وانتخابية واسعة، فضلاً عن ثقلها الرمزي والتاريخي.
وما يُضاعف خطورة هذا المشهد، أن جزءًا كبيرًا من الشعب العراقي قد أصبح عازفًا عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية، بعد سنوات من الإحباط، والتهميش، والفساد السياسي، وتراجع الخدمات. هذه العزوفات الشعبية تعني ببساطة ابتعادًا خطيرًا عن آلية التصويت الديمقراطي، مما يُفضي إلى ضعف المشروع الانتخابي نفسه، وانهيار البنية السياسية التمثيلية للعراق، بكل ما تحمله من توازنات ومصالح وطنية.
إن هذه السلسلة من الانسحابات أو المقاطعات إن تتابعت ـ وهو السيناريو المرجح ـ فإنها ستُسقط ما تبقّى من شرعية الانتخابات البرلمانية، وستؤدي حتمًا إلى انهيار البنية السياسية التمثيلية، وهو ما سيخلق فراغًا سياسيًا قاتلًا، سيكون من الصعب ملؤه بالآليات الوطنية.
وهنا تحديدًا، يظهر في الأفق البديل الأمريكي.
فكل المعطيات تشير إلى أن الولايات المتحدة، التي لم تغادر العراق فعليًا، ستكون جاهزة للتدخل بشكل مباشر في لحظة الانهيار تلك، ليس فقط كضامن أمني، بل كمُصمّم جديد لبنية سياسية عراقية تُفصّل على مقاس العولمة السياسية الأمريكية، وتخدم مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مصالحها الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية.
التحركات العسكرية، كهبوط الطائرة الروسية في طهران المحمّلة بمعدات يُرجح استخدامها في أنظمة اعتراض الطائرات، ونقل السجناء من معسكر التاجي إلى سجن أبو غريب، بالتزامن مع وصول قوات الناتو، كلّها مؤشرات تُترجم ما يشبه إعادة انتشار وتموضع للقوى الدولية في الملعب العراقي المشتعل.
أما تصريحات ترامب الأخيرة بضرورة “حل الميليشيات” و”إخراج العراق من النفوذ الإيراني”، فهي ليست أكثر من إعلان مسبق لنية واضحة في تطهير الساحة العراقية من مكوّنات سياسية وعسكرية لا تتوافق مع المصالح الغربية.
وهنا أجد لزامًا عليّ أن أرفع صوتي عاليًا، وأناشد من بقي من الشرفاء الوطنيين من السياسيين والمثقفين وكتّاب الرأي، أن يتحلّوا بأعلى درجات الوعي والحذر، فالعراق مُقبل على مرحلة قد لا يكون فيها الحديث عن السيادة أكثر من حلم مؤجل، إن لم يُواجه اليوم بما يكفي من شجاعة وتضامن ومسؤولية.
إن الإمبريالية الغربية، ومعها أدواتها الإقليمية والمحلية، لا تنفك تبحث عن لحظة انهيار داخلية كي تتدخل باسم “المنقذ”، وتفرض علينا خريطة حكم لا تراعي خصوصياتنا، ولا تحترم دماءنا وتضحياتنا، بل تُعيد إنتاج السيطرة بأساليب ناعمة، مغلفة بمفردات القانون والديمقراطية والإنقاذ.
لقد آن أوان الاصطفاف الوطني الحقيقي، قبل أن يُصبح العراق مُجرّد ساحة نفوذ تتقاسمها المشاريع الخارجية، ويتحول شعبه إلى رقم هامشي في معادلة لا تملك بغداد من أمرها فيها شيئًا.