ثورة الحسين (ع).. الاشتعال وديمومة التوهّج..!

بقلم _ عبد الزهرة محمد الهنداوي 

 

من تحت الأشلاء المقطّعة، وركام الاشياء، ومن رماد النيران المشتعلة في ذلك المخيّم،ومن شقوق الشفاه التي أيبسها العطش، انبثقت زهرة جديدة للحياة، كأنها ارتوت من الدماء التي سالت في الوادي، وتشربت من رماد النيران ودخانها، الذي غطّى ملامح السماء، حتى غدت تلك العناصر المدمّرة سمادًا لها، فبقيت تنمو وتتوّهج.

هكذا كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) التي توهّجت جذوتها بوادٍ غير ذي رحمة، عام 61 للهجرة، لتبدّد ظلماتٍ تراكمت خلال عقودٍ من الزمان، أُريد لها أن تستمر وتتمدّد، حتى تضيع بوصلة الإنسان، وتُغتال القيم تحت جنح الظلام.

لكن الثائر الذي خرج طلبا للاصلاح، كان له موقف آخر؛ فهو الذي حُمّل أمانة الرسالة، وحَمل كل رحمة الله في رَحْله، تلك الرحمة التي اخذها من جده “محمد” (ص)، اذ بعثه الله رحمةً للعالمين، ولم يكن من المنطقي، بل من المستحيل، أن يتخلى الحسين (ع) عن أمانة الامين ووديعة الرحمة أو يفرّط بها، فمضى على بصيرة من امره، وهو يعلم علم اليقين إلى أين تمضي به خطاه، وما الثمن الباهظ الذي ينتظره في نهاية هذا الطريق.

ولذلك فإن نهضة الامام الحسين (ع) ما كان بامكان العادّين حسابها كميا؛ إذ لا يمكن اختزالها بحسابات الكثرة والقلة، لأنها ثورة من نوعٍ آخر، لا تقاس إلا بأثرها وخلودها.

ومنذ ذلك اليوم، حيث سُطّرت أعظم ملحمة في سجلّ التاريخ، وبقلم قائدٍ لا يُشبهه أحد، بقيت جذوة الثورة مشتعلة، تشعّ نورًا في دروب الأحرار، وتلهم التائقين إلى حياة حرة لا ظُلم فيها ولا ظلام.

ثورةٌ استثنائية في كل تفاصيلها، فريدة في كل مساراتها وتجلياتها، لا تقبل النسخ أو التكرار، كل من جاء بعدها، استضاء بنورها واقتفى أثرها.

الشجاعة فيها كانت استثنائية، والوفاء استثنائي، والثبات على المبدأ استثنائي، بل حتى الاستمتاع بلذّة الموت في سبيل الحق، كان استثنائيًا؛ فالقائد وكل الذين معه كانوا يعلمون أن موتهم هو صناعة للحياة بشكل مختلف.

كل فردٍ من تلك الثلّة المباركة — رجالًا ونساء، أطفالًا وشيوخًا، أهلًا وأنصارًا، قادةً وجنودًا — عنوانًا لحكايةٍ عظيمة، حتى خيولهم كانت استثنائية…

وقد وقف التاريخ، أمام هذا المشهد، عاجزًا عن احتوائه، حائرًا، فاغرا فاه، مرة ببلادةٍ، وأخرى بعجزٍ، حين أدرك أن اسفاره لا تتسع لاحتواء ماجرى في تلك الساعات الاستثنائية التي هزّت ضمير الكون هزّا عنيفا.

بحسابات الكم، لا مجال للمقارنة بين معسكرين:
معسكر الظلام، الذي حشد كل قوى الشر، وكان جيشه عرمرمًا، يسعى بكل ما أوتي من بطش، لإطفاء جذوة الحياة في الأرض.
ومعسكر النور، الذي ثبت بثقةٍ وصلابة لا تلين، رغم قلّة العدد والعدّة. وهنا يُستحضر مبدأ النوع، لا الكم.

نعم، بحسب الظاهر، قُتل الحسين (ع) وأهله، (فأنست بهم ارض الطفوف ، واوحشت هضبات يثرب والمكان الأرفع)، لكنهم، بتضحياتهم الاستثنائية، أضاءوا وهجًا لا ينطفئ، وسقوا زهرة الحياة من نجيع دمائهم، فكانوا شهداء خالدين في ضمائر المخلصين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى